إذا كان من المعلوم و "المفهوم" أن مهام التفكير والبرمجة و التخطيط أُسندت عند "النشأة الأولي" للدولة الموريتانية الحديثة إلي خبراء أجانب نتيجة لندرة المصادر البشرية الوطنية القادرة علي الاضطلاع بتلك المهام فإنه من المستغرب أنه بعد بلوغ الدولة الموريتانية "الأَشُدً"
لا زالت معظم القطاعات الوزارية تعتمد علي خبراء أجانب يُسْنَدُ إليهم غالبا جزءٌ معتبر من مهام التفكير الاستراتجي و الإصلاح و المتابعة و التقييم..!!
و ينشط حضور هؤلاء الخبراء الأجانب أساسا بقطاعات المالية و الشؤون الاقتصادية و التنمية و النفط و المعادن و الداخلية و اللامركزية و الصيد و الدفاع،... و لا يجد بعض المسؤولين الأُوًلِ عن تلك القطاعات الوزارية حَرَجًا في إسناد كامل ملف التخطيط الاستراتجي والدراسات و البرمجة للخبراء الأجانب!! ومنهم من يلجأ في سبيل ذلك إلي التمويه عبر استخدام مصطلحات "الدعم الفني" و "العون التقني" و "الاستشارة المُتَخَصِصَةِ"،...
كما أن الغالبية الغالبة من مشاريع التطوير المؤسسي و التنمية القاعدية الممولة من طرف شركاء التنمية في شكل "قُرُوضٍ حَسَنَةٍ أو غَيْرِ حَسَنَةٍ" موثقة علي الأجيال الحاضرة و القادمة تعتمد تفكيرا و صياغة و متابعة و تفييما بشكل معتبر علي الأدمغة الأجنبية إما بشكل مباشر من خلال خبراء مُقِيمِينَ أو بشكل غير مباشر عبر"خبراء زَائِرِينَ" أو بالإفراط في الاستعانة بهما معا و يَسْتَنْزِفُ الفريقان في المتوسط ثُلُثَ الغلاف المالي الإجمالي للمشروع أو البرنامج التنموي.!!
و الأدهي و الأمر من كل ذلك هو أن عقل التخطيط و إعداد السياسات العامة والعقل الاقتصادي و المالي خصوصا عندنا موجود في "رَاحَةٍ قَسْرِيًةٍ إِلَي إِشْعَارٍ جَدِيدٍ" منذ بداية التعاقد مع صندوق النقد الدولي و البنك الدولي سنة1985 حيث فُرِضَ علي بلادنا اتِبَاعُ "وَصَفَاتٍ" و "حِمْيَاتٍ" تنموية و اقتصادية و مالية و نقدية صالحة لكل مكان من دول العالم الثالث أقل ما يقال عنها أنها لا تراعي ترتيب المستعجلات التنموية ببلادنا!!.
وهكذا خضعت بلادنا منذ بداية التعاقد مع مؤسسات النقد الدولي حتي الآن إلي سياسات تنموية و إصلاحات مؤسسية و اقتصادية و مالية مُصَنًعَةٍ "100% بالخارج" و علي "مقاس عَالَمْثَالِثِي مُوَحًدٍ" REFORMES TAILLE UNIQUE مثل برامج الدعم و الدفع (PCR) و التقويم الاقتصادي و المالي(PREF) و طَبَقَاتِ الإصلاح الهيكلي (PAS) وطَبَعَاتِ الإطار الاستراتجي لمكافحة الفقر(CSLP) و تستعد بلادنا الآن لتطبيق الجيل الجديد من "المقاربات التنموية ذات المقاس الواحد" المتمثل في الاستراتجية الوطنية للنمو السريع و المتقاسم (SCRP).
و يعتقد الكثير من المتابعين و الحادبين علي الشأن التنموي الوطني أن ثلاثين سنة)1985-2015( من الالتزام و التقيد الصارم بحِمْيَاتِ مؤسسات النقد الدولي السابقة لم توفق في تحقيق تحسن"صحة" القطاعات الاقتصادية و المالية للبلاد و ساهمت في استفحال "أوجاع" القطاعات الاجتماعية كالصحة و التعليم و الحماية الاجتماعية و إطفاء المظالم الاجتماعية المتوارثة و توفير الماء الشروب و البني التحتية للنقل،...!!
و عديدة هي الدول التي فطنت إلي الفشل المَقْدُورِ"للمقاربات التنموية ذات المقاس الواحد" و"المُصَنًعَةِ خارج الحدود" و اختارت التفاوض مع شركاء التنمية حول نماذج تنموية ذاتية "مصنعة محليا" تنطلق من الخصوصيات الوطنية و لا تجد غضاضة في الاقتباس و "الاختلاس"من التجارب التنموية الناجحة شعارها الرئيس "أن لا مستقبل لبلد يفكر من وراء الحدود" فحققت نجاحات تنموية صاعدة كالبرازيل و تركيا و غانا والجزائر،...
و أملي عريض في أن توفق الحكومة الموريتانية عبر الكفاءات الوطنية المُبَرًزَةِ ذات العلاقة بالملف التنموي حاليا من تعديل نسخة "المقاس الواحد" من الجيل الجديد من المقاربات التنموية المتمثل في الاستراتجية الوطنية لتحقيق النمو السريع و المتقاسم تعديلا جوهريا يضع في الحسبان أن أية مقاربة "مَاكْرُوتَنْمَوِيًةٍ" لهذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلد لا تبدأ بمعالجة مِلَفًيْ إطفاء المظالم الاجتماعية المتوارثة و إصلاح التعليم فَقَدَرُهَا المَقْدُورُ هو الفشل السريع و الذريع.!!!