بدون الخوض في جدال: هل وجدت الدولة بعد، أم لا؟ فإننا نفترض أن بعض مظاهرها على الأقل وجدت فيما بعد الاستقلال (الرسمي طبعا) وقبيل الألفية.
بدأ الموريتاني "البدوي" يلمس ذلك بوضوح من خلال المدرسة والتعليم على الأقل، فقد كانت السلطة السياسية واعية لأهمية تكوين
أطر في مختلف المجالات بعد أن لاحظت عند إعلان الاستقلال أنه إعلان عن وطن يفتقد إلى مواطنين!
وفي هذا الصدد يمكن تذكر الحجم الكبير لأطر أجانب في الإدارة الموريتانية خلال العقد الأول من وزراء ومسؤولين حكوميين في مختلف المستويات.
المدرسة الموريتانية مثلت أكبر حضور للدولة في تلك العقود ابتداء من الإنفاق على البنية التحتية للمدارس إلى التعاقد مع مدرسين أجانب ظلوا إلى عهد قريب وحتى نظام الداخليات (Internats) الذي يتكفل بالطلاب الموريتانيين الذين لا يحتاجون إلى رعاية ذويهم بعد تكفل الدولة بكل احتياجاتهم، أو عبر نظام المنح للخارج لضمان التكوين العالي لهم.
ومنذ نهاية التسعينيات بدأت المدارس الخاصة في الظهور، كاستجابة لمتغيرين: الأول يتعلق بمستوى الإشباع الذي تحقق ي مجال التكوين التربوي، والثاني يتعلق بفتح المبادرات الخاصة المرتبطة بالانفتاح على النظام الليبرالي الذي بدأ النظام السياسي يتبناه في ذلك الوقت، فظهرت أولى المدارس الحرة في نواكشوط مؤذنة بعصر جديد.
ولم يفطن للخطر الجديد إلا ثلة من المعارضين لتدخلات البنك الدولي والمؤسسات الدولية من تيارات سياسية مختلفة أبرزهم قوميون ناصريون عملوا على محاربة المدارس الخصوصية بتفتح مبادرات لدروس مجانية لم تصمد أمام الإغراءات المادية الكبيرة للفكرة، وتخلي أبرز الناشطين فيها عن التطوع والعدول عنها إلى تأسيس مدارس خصوصية مدرة للربح!!
ثم بدأت المدارس الجديدة تنتشر كالفطر ساحبة البساط من تحت المدارس العمومية باستئثارها باهتمام المدرسين الذين وجدوا وضعا ماديا مريحا بالعمل فيها، واستطاع الكثير من هذه المدارس أن يحقق نجاحات باهرة في وقت قياسي على مستوى نتائج الامتحانات الوطنية مما أقنع الأهالي بمردودية التعليم الخاص، وفشل التعليم العمومي الذي يعاني الإهمال والتسرب.
ظل التعليم الحر خلال العقدين الماضيين منافسا للتعليم العمومي، ولكنه أصبح الآن بديلا عنه ـ لمن يستطيع الاختيار ـ وأصبح في تقديري أداة فتاكة نغتال بها الدولة وحضورها في المجال العام، فكيف يكون ذلك؟
إن حضور الدولة في وعي المواطنين مقترن بما تقدمه من إشباع لحاجاتهم الضرورية من أمن وعدل ودفاع وصحة وتعليم وخدمات مختلفة، وعندما تتخلى الدولة الموريتانية عن خدمة التعليم التي ظلت ـ كما سبق وأن أشرنا ـ أقرب طريق لاستيعاب مفهوم الدولة من قبل الموريتانيين فإن ذلك ينذر باحتضار وشيك لها، على الأقل في أذهان المواطنين!!
ولأشرح بتفصيل كيف تخلت الدولة عن خدمة التعليم علي أن أذكر بجملة من النقاط:
أولا: رغم الزيادة الملحوظة في رواتب المدرسين (ما بين 2005 و2009) بالمقارنة لما كانت عليه فإن كل الخطوات التي انتهجتها الدولة تشير إلى أنها ترفع يدها عن التعليم وتتنحى مفسحة المجال للتعليم الخصوصي ليأخذ زمام المبادرة:
ـ ضعف توسع الخارطة المدرسية العمومية.
ـ اكتتاب عقدويين للتدريس بدلا من موظفين عموميين (أكثر من 50% من المدرسين هم عقدويون) مما يشي باختيارات مؤقتة يمكن الاستغناء عنها في أي وقت.
ـ التسيب والإهمال في المدارس العمومية (لاحظوا فقط المعدات الناقصة، والأبواب والنوافذ المنزوعة من هذه المدارس ) .
ـ تفشي الجريمة والانحلال أمام المدارس العمومية نتيجة غياب الرقابة الإدارية والتنسيق مع آباء التلاميذ (أذكر هنا بتفشي استعمال المخدرات أمام الثانويات العمومية) .
ثانيا: مع بروز المدارس الخاصة لم تتخذ الدولة أية خطوات لفرض الرقابة عليها، فظهرت مؤشرات خطيرة منها:
ـ وجود مدارس خاصة أجنبية حرة تدرس مناهج لا تتلاءم مع المنهاج الوطني.
ـ وجود مدارس فئوية خاصة بأعراق معينة .
ـ ظهور مدارس قبلية ينتمي طاقمها المشرف ومدرسوها وأغلب تلاميذها إلى قبيلة معينة، فضلا عن وجود مدارس جهوية.
ـ ظهور مدارس طبقية خاصة بالفئات الغنية من المجتمع.
ـ تسرب العديد من المدرسين الأكفاء من المدارس النظامية إلى المدارس الحرة بحثا عن مكاسب مادية، أو عدم اهتمامهم بالمؤسسات العمومية.
ـ عدم مراقبة الكفاءة التربوية لدى بعض مدرسي المدارس الخصوصية، فيكفي إذن تدريس ليمارس الشخص التدريس في هذه المدارس ولا يوجد أي تقويم له قبل الولوج، وفي الغالب بعده.
ورغم الإجراءات التي أدت إلى إغلاق بعض المدارس الحرة، إلا أن السمة الغالبة لتعاطي الجهات الرسمية هو المحاباة طمعا في تبادل المنافع العمومية.
وقد يقول البعض بأن المدارس الحرة خلقت فرصا استثمارية حقيقية، وأدت إلى توسيع دخول المدرسين، وتساهم في امتصاص البطالة، وهي أمور صحيحة إلى حد كبير.
. . لكن عندما تكون هذه المدارس بديلا "إجباريا" عن المدارس العمومية، عندما تطعن في الوحدة الوطنية وتكرس الفوارق الطبقية، وعندما تختفي الدولة بسبب اضطلاعها بالخدمة التي كانت من أهم عوامل تكريس مفهوم الدولة الذي لم يترسخ بعد. .
عندها تكون هذه المدارس خطرا حقيقيا يهدد مستقبل البلاد ينبغي التوقف قليلا لمراجعة جادة وحازمة .