مفهوم المواطنة وإدارة التنوع / محمد عبدالرحمن عبدالله حمني

تؤكد الممارسة الميدانية أن درجة انصهار مختلف المكونات داخل المجتمع؛ تظل متوقفة في جانب أساسي منها على طبيعة التعامل الذي تسلكه السلطات السياسية والاجتماعية نحوها؛ فالنأي عن مبادئ العدالة والحرية والممارسة الديمقراطية؛ كلها عوامل تحرض الفرد على الاحتماء خلف الخصوصية

والميل نحو الانغلاق عن المحيط العام؛ والبحث عن مشاريع بديلة خاصة؛ مما يجعل الانتماء ضيقاً؛ ويفضي في كثير من الأحيان إلى الصراع والاضطراب والتعصب والانقسام.. فيما يسهم التشبث بهذه القيم والمبادئ في ترسيخ الوحدة الوطنية؛ ويدفع نحو التعايش والاندماج ويجعل الانتماء أكثر رحابة واتساعاً.
إن التنوع المجتمعي بأبعاده المختلفة ثقافية كانت أو إثنية أو عرقية أو دينية أو لغوية.. يحتمل وجهين؛ أولهما إيجابي عندما يسهم ذلك في تحصين المجتمع وتقوية كيان الدولة؛ إذا كان هناك تدبير بنّاء لهذا التنوع، وثانيهما؛ سلبي؛ لما يمكن أن يشكله من خطر على وحدة المجتمع وكيان الدولة، في حال وجود انحراف في تدبير هذا الملف الحيوي.
فعندما يطال الظلم والتهميش والإقصاء أحد مكونات المجتمع؛ فإن الأمر سيؤثر بالسلب حتماً في التضامن الداخلي ويسهم في تهديد وحدة الدولة؛ ويؤدي بالتالي إلى أزمات اجتماعية وسياسية.
إن الممارسة الديمقراطية واعتماد العدالة بأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية..؛ تشكلان معاً المدخل الكفيل بتدبير التنوع والاختلاف القائمين داخل المجتمع بصورة بناءة وسليمة؛ بما يضمن شروط التعايش ووحدة الدولة وتحصينها ضد أية مؤامرات كيفما كان مصدرها.
في الوقت الذي توفّقت فيه الكثير من دول العالم؛ كما هو الشأن بالنسبة للهند وجنوب إفريقيا وبلجيكا وفرنسا..؛ في تدبير تنوعها المجتمعي؛ حيث جعلت منه عامل قوة؛ فإن دولاً أخرى عرفت انفجاراً للصراعات العرقية والدينية والطائفية.. تعكس الاختلالات الكبيرة على هذا المستوى؛ وتندرج حالات كل من الاتحاد اليوغوسلافي السابق، ورواندا، والصومال؛ والعراق.. في هذا الإطار، فيما تحاول دول أخرى وضع حد لهذه المعضلة؛ عبر اعتماد تدابير وإجراءات تتباين في أهميتها من قطر لآخر؛ مع تنامي الحركات الحقوقية وتزايد الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان على الصعيد العالمي.
تتميّز المنطقة العربية بتنوعها المجتمعي في جوانبه العرقية والإثنية والثقافية والدينية..؛ غير أن هذا التنوع اتخذ طابعاً طائفياً في الكثير من الدول العربية؛ وأفرز الكثير من الصراعات؛ التي لم تخل من عنف وتطرف وتكفير في عدد من المناسبات..
كان من حسنات الحراك الذي شهدته المنطقة؛ أنه كشف من جديد عن الاختلالات الخطيرة التي تلف هذا الجانب؛ وأبرز أن الصراع الطائفي الذي عرقل التحوّل الديمقراطي في لبنان والعراق؛ أصبح يتهدّد أيضاً أسس وكيان الدولة نفسها في كل من ليبيا واليمن وسوريا.
يعبر تصاعد الطائفية بالمنطقة عن وجود اختلالات على مستوى التنشئة الاجتماعية والتربية الدينية؛ من حيث تكريس الرأي الواحد والانغلاق والتعصب والإقصاء والتطرف
والقبليّة؛ إضافة إلى اعتماد تشريعات تكرّس الإقصاء والتمييز بين أفراد المجتمع الواحد؛ وعدم اعتماد الصرامة في مواجهة المحرّضين على الطائفية؛ علاوة على عدم توفّق الدولة في تدبير تنوعها المجتمعي؛ أو السعي لتوظيفه بشكل منحرف
خدمة لمصالح سياسية ضيقة، كما لا تخفى العوامل
الخارجية في استغلال هذا الجانب خدمة لمصالحها داخل بعض الدول.
خلّف رحيل بعض الأنظمة في أعقاب الحراك؛ وضعية خطيرة من الصراع والاستقطاب، كشفت هشاشة المقاربات التي اعتمدتها العديد من دول المنطقة في هذا الصدد؛ والواقع أن تجاوز هذه الصعوبات والاختلالات؛ لا يمكن أن يتأتّى إلا من خلال ترسيخ مواطنة حاضنة لجميع مكونات المجتمع؛ وضامنة لحقوقهم وحرياتهم..، فالوطن الذي لا يستوعب مكوناته الاجتماعية في مختلف تجلياتها (الثقافية والعرقية والإثنية والدينية..)؛ ولا يدعم حقوق الأفراد وانتظاراتهم؛ في إطار من الأمن والاستقرار الذي يحميه وجود تعاقد بين الفرد والدولة؛ يؤدى إلى اختلالات تقتل روح هذه المواطنة.
تحيل كلمة "المواطنة" إلى الوطن؛ أي ذلك الفضاء الجغرافي والسياسي الذي يقيم فيه الإنسان؛ وتجمعه به علاقات قانونية مجسّدة في الجنسية وثقافية وسياسية واجتماعية ترتبط بالشعور بالانتماء الوجداني والتاريخي والثقافي؛ علاوة على التمتع بمختلف الحقوق والالتزام بالواجبات، وهي إحدى الأسس التي تنبني عليها الديمقراطية؛ فهي توفر المناخ السليم والأجواء المناسبة لتعايش الخصوصيات والاختلافات الثقافية والحضارية؛ فيما يكرّس الاستبداد مفاهيم منحرفة للمواطنة؛ وغالباً ما يربطها بالواجبات دون الحقوق؛ بما يحوّلها إلى شكل من العبودية.
والمواطنة ليست مجرد اكتساب الفرد لجنسية ما؛ بما يترتب عنها من حقوق وواجبات؛ وإنما هي أيضاً شعوره بانتماء الفرد إلى فضاء مجتمعي يتقاسم معه العديد من المبادئ والأفكار والأهداف؛ بصورة تحفظ كرامته وتجعل الولاء الوطني للفرد يسمو فوق كل الولاءات القبلية والعرقية والمذهبية الضيقة.. إنها أساس كل ديمقراطية.
وإذا كان الشعور بالمواطنة هو أحد المؤشرات التي تعكس تمتّع الإنسان بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والثقافية والسياسية؛ فإن مظاهر القمع والشمولية التي فرضتها الكثير من الأنظمة الاستبدادية أفرغت هذا المفهوم من كل معانيه النبيلة وقيمه البناءة، حيث سعت في كثير من ممارساتها إلى إلغاء حقوق المواطنة.
شكّل الحراك القائم في عدد من دول المنطقة العربية مناسبة رفعت خلالها العديد من المطالب المختلفة التي تنحو إلى إعادة النظر في العلاقة القائمة بين المواطن والنظم السياسية القائمة؛ من علاقة يطبعها الحذر والصدام إلى علاقة مبنية على التواصل واحترام الحقوق والحريات والكرامة الإنسانية في إطار تعاقد اجتماعي جديد يسمح بإرساء مواطنة تحتكم إلى المؤسسات واحترام الحقوق والحريات.
إذا كان ترسيخ قيم المواطنة ومرتكزاتها يسائل الدولة؛ من حيث توفير شروطها القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية..؛ فإنه يعني أيضاً مختلف الفعاليات والقنوات داخل المجتمع من أسرة وإعلام وأحزاب سياسية ومجتمع مدني ومؤسسات تعليمية ودينية..؛ باتجاه ترسيخ هذه القيم وما يتصل بها من احترام للحقوق والحريات؛ واختلاف وتنوع وتعايش وتسامح وحوار..

 

30. يناير 2016 - 16:37

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا