يعد التكوين المهني وسيلة ناجعة للحد من البطالة في صفوف الشباب ،ومحركا لدفع عجلة التنمية الاقتصادية في البلدان النامية ،فهو احد أهم محفزات الاستثمار ،فوجود كفاءات مهنية مدربة شرط أساسي لجذب المستثمرين.
مر قطاع التكوين الفني والمهني في بلادنا بثلاث مراحل رئيسية:
مرحلة التكوين الفني:
شكل القطاع ألمنجمي فرصة لجذب يد عاملة مدربة، حيث ظهرت مؤسستان للتكوين الفني في عقد السبعينات من القرن الماضي ،هما:ثانوية وإعدادية التكوين الفني بنواكشوط، ومركز مامادو توري بانواذيبو ، وقد ساهمت المؤسستان في تخريج دفعات من باكالوريا الشعب الفنية وقد اتسمت تلك المرحلة بما يلي:
- وجود بنية تحتية جيدة ومعدات تكوين ملائمة؛
- وجود طاقم تكوين أجنبي ومشورة فنية أجنبية؛
- توفر سكن داخلي؛
- ينحصر نمط التكوين علي الفني القاعدي ؛
- غياب مستويات التكوين الدنيا؛
- تنحصر شعب التكوين في القطاع الصناعي.
اتسمت هذه المرحلة بسيادة مخرجات تكوين تحمل باكالوريا فنية ، شكلت النواة الأولي لأغلب مهندسي البلد.
مرحلة التكوين المهني:
شكلت أحداث 1989 الأليمة ،فرصة لمراجعة سياسة التكوين ،في ظل ندرة اليد العاملة الماهرة ـوالتي كانت تتشكل أساسا من الأجانب ،حيث تأثرت المقاولات الوطنية كثيرا ،مما دفع السلطات العمومية إلي إتباع سياسة جديدة، تسعي إلي مرتنة اليد العاملة الماهرة ،عن طريق التكوين المهني، بحيث تكون المخرجات من مستويات التكوين الدنيا والمتوسطة علي أن تشمل قطاعات حيوية كقطاع الأشغال والبناء والزراعة...الخ.
سمحت هذه السياسة بالاستجابة نظريا علي الأقل لمتطلبات الاقتصاد الوطني ،من حيث تنويع فرص التكوين، وتصحيح هرم مخرجات التكوين، بعد أن كان يركز فقط علي المستويات العليا.
شكل عام 1998 منعطفا ،حيث امتلك القطاع إطاره القانوني بفضل القانون 98-007 المحدد لمرجعيته ،كما تم إصدار المرسوم 98-056 والذي حول مؤسسات التكوين الفني والمهني إلي مؤسسات عمومية، ذات استقلالية مالية وإدارية ،كما تم إنشاء المركز الوطني لترقية التكوين الفني والمهني والذي سيلعب أدوارا كبري في منظومة التكوين لاحقا.
مرحلة توحيد منظومة التكوين:
بدأت هذه المرحلة عام 2008 بظهور وزارة منتدبة مكلفة بالتكوين الفني والمهني، ضمت تحت وصايتها اغلب مؤسسات التكوين الفني والمهني ،كما اتسمت هذه المرحلة بإعطاء القطاع أولوية كبري من قبل السلطات العليا في البلد.
القطاع بالأرقام:
تتألف منظومة التكوين الفني والمهني الواقعة تحت مظلة وزارة التشغيل والتكوين الفني والمهني وتقنيات الإعلام والاتصال، من 19 مؤسسة ينضاف إليها مركز اقرأ ذو النفع العام، بينما يضم القطاع 9 مؤسسات تتبع لوزارات أخري كالصيد والزراعة والصحة والمرأة كما توجد مؤسسات أخري تتبع جهات مختلفة.
خلال السنة الدراسية 2014-2015 بلغ عدد الطلاب 5818 أقل من4% من طلاب التعليم الثانوي يتوزعون علي الشكل التالي:223 طالبا في المستويات العالية(BTS ومهندس أشغال ) و3803 في مستوي شهادة التقني BTو1792 في مستوي كفاءة التكوين المهني CAP.
تشير الدراسات بأن سوق العمل، تستقبل سنويا 50000 طالب عمل ،لا يملكون مؤهلات فنية، بينما لا يستطيع القطاع اليوم استقبال سوي 5% منهم فقدرة الاستيعاب السنوية بحدود 2500 طالبا.
بلغ عدد الأساتذة في السنوات الماضية 318 أستاذا يتباينون كثيرا في مستوياتهم، حيث نجد: مهندس وفني عالي ،وتقني، ومهني لا يملك مؤهلا دراسيا، وحتي أشخاص عاديين، لا يملكون غير مؤهل القرابة.
يبلغ عدد شعب التكوين العالي 8 شعب، أما مستوي التقني BT فيصل عدد الشعب إلي 14 شعبة ،بينما يصل عد شعب كفاءة التكوين المهني CAP 19 شعبة، أما شهادة الباكالوريا الفنية فممثلة بشعبة واحدة هي TMGM .
القطاع في ظل العناية
أحيط قطاع التكوين الفني والمهني في السنوات الأخيرة بعناية فائقة ،حسد عليها من قطاعات هامة أخري في البلد، إلا أن تلك العناية لم تتحول إلي قوة دفع ترفع من مستوي المنظومة ،فهي تعاني اليوم من اختلالات هيكلية كبري ،فقد فشل القائمون علي تدبير وحوكمة المنظومة ،في الاستفادة من الإرادة السياسية المعلنة وازدهار الحوض ألمنجمي في السنوات القليلة الماضية.
بدأ التعثر في الأيام الأولي للإصلاح، حيث تم تشخيص واحد من أهم مشاكل القطاع والمتمثل في فوضوية وعبثية مؤسسات التكوين، حيث تم اتخاذ قرار بإغلاق مؤسسات صورية ،لا تملك أية مؤهلات للتكوين ،حيث لا توجد لديها بنية تحتية، ويقتصر مكونوها علي أشخاص غير مؤهلين ،وأحيانا لا تملك طلابا، بينما تستنزف موارد كبيرة وتفوق ميزانياتها أحيانا كبري مؤسسات التكوين ،وتستقطب أهم المشاريع وهي بذلك تشبه الثقوب السوداء في جسم المنظومة.
إن قرار الإغلاق والذي عد انجازا في حينه ، لم يصمد طويلا،ليعاد فتحها من جديد وتقدم كانجاز آخر،فيما يشبه قصة العلامة الحمراء الشهيرة ،والتي وضعت علي منتج ورفع سعره لأنه أصبح بالعلامة الحمراء، ثم أزيلت بعد فترة ورفع سعره أيضا لأنه أصبح بدون العلامة الحمراء!.
لم يقتصر الأمر علي هذا الحد، فقد حولت مؤسسات فنية إلي ما يسمي الثانويات متعددة التخصصات ،وقدمت علي أنها انجازات ،بينما لم يتغير علي ارض الواقع غير اللافتات علي واجهات تلك المؤسسات،كما تم الإعلان عن فتح إعداديات فنية ثم نسيت تلك القصة لتتذكر بعد سنة ويعاد تفعيلها علي عجل.
شملت العناية أيضا تقليص ميزانيات مؤسسات التكوين ،بالرغم من أنها لم تكن تسير برشد، إلا أن ذلك لا يعد مبررا للتخفيض ،حيث انعكس ذلك بشكل كبير علي سير الأعمال التطبيقية خصوصا في ظل زيادة أعداد الطلاب ،فأضحت مؤسسات التكوين أشبه بمؤسسات تعليم عام، فالورشات صامتة صمت القبور.
شملت العناية أيضا منح علاوة للمردودية تبلغ 10000 أوقية تمنح شهريا،تعطي اليوم حتي الأساتذة المتغيبين.
شملت العناية أيضا ،زيادة منح الطلاب، مما ساهم في الإقبال علي المؤسسات وتحسين ظروف الطلاب القادمين من جهات بعيدة.
اختلالات القطاع
يعاني القطاع من اختلالات كبيرة ،فهو عاجز عن تقديم المهارات الفنية والمهنية الملائمة لقوي المجتمع العاملة ،وتحسين أدائها، كما انه عاجز عن إمداد القوي المجتمعية الباحثة عن العمل بكفاءات مهنية تمكنها من الولوج للعمل ويعود ذلك في الأساس إلي:
- غياب إستراتجية شاملة للمنظومة،فهي اليوم تسير خلف مصباح العناية والذي توجهه هي دون بصيرة؛
- ضعف تخطيط المنظومة ،ويتجلي ذلك في إهمالها القوي العاملة الغير مدربة، وضعف استهدافها لقطاعات هامة، فقطاع التنمية الحيوانية مثلا يشغل 60% من القوي العاملة في البلد معلومة تتجاهلها المنظومة؛
- ضعف استشراف المستقبل ،حيث تعجز المنظومة عن مواكبة الأشغال ألكبري في البلد مما يسبب فقدان فرص عمل ثمينة؛
- إهمال احتياجات القطاع الغير مصنف المشغل الأكبر للقوي المجتمعية في بلادنا و بلدان جنوب الصحراء؛
- ضعف الحوكمة وتدبير المنظومة مما فرغ الإرادة السياسية المعلنة من فعاليتها.
سبل تطوير القطاع
يبدأ تطوير القطاع حتما بتصحيح اختلالاته واتخاذ تدابير فعالة لتحسين أدائه مثل:
- إنشاء أقطاب تكوين قطاعية تتناسب مع حاجيات القطاعات المختلفة، وتملك الإمكانات الحقيقية للتكوين وغلق المؤسسات التي لا تملك مستوي جودة تكوين؛
- مراجعة الإطار القانوني ،ليواكب إصلاح المنظومة، وخلق منصة وطنية موحدة للتكوين مما سيسمح بإدخال أنماط تكوين جديدة؛
- إجراء مسوح ودراسات جادة ،تمكن صناع القرار من تقييم أداء المنظومة واتخاذ التدابير الملائمة ،حيث ظلت تلك الاستبيانات والدراسات تصمم وتفسر حسب ما يعتقد انه يوافق مزاج السلطات العليا؛
- غربلة وتطوير أداء الموارد البشرية في القطاع ،خصوصا المكونين ،والمصادقة علي سلكهم لان تتباين مستوياتهم قد يصيب بالصداع، وهو ما حدث مع أشقائنا في تونس والمغرب ،فقد أرسلت لهم الوزارة دفعات تضم مكونين لمتابعة دورة تكوين محددة الأهداف، إلا أن تباين مستوياتهم أجهض الدورة، فمنهم من لا يحمل أية شهادة أو حتي خبرة مهنية ،والبعض الآخر يحمل شهادة مهندس دولة ،ومنهم من سيتقاعد في 2017 ،والبعض الأخر لا زال يتلمس خطاه ،ومنهم من لم يلمس جهاز كومبيوتر في حياته ،والبعض يبرمج، ومنهم من لا يعرف غير العربية والدورة حدد أنها بالفرنسية ،وأمور أخري كثيرة...! تعكس كلها غياب التخطيط؛
- تقدير كلفة الدارس في المنظومة وتحديد احتياجات المؤسسات تبعا لذلك؛
- إنشاء مركز لتكوين المكونين يعهد إليه الرفع من قدراتهم؛
- كتابة برامج التكوين بحرفية ومتابعة تثبيتها في المؤسسات؛
- إدخال مفهوم الجودة والحد من النجاحات الاعتباطية، فنسمع كل سنة عن نسب نجاح تضاهي نسب نجاح اعتي الدكتاتورين، مما ينعكس سلبا علي مصداقية المنظومة؛
- إدخال أنماط التكوين التي تستهدف القوي المجتمعية العاملة والضعيفة التدريب، فالتكوين المهني حق لكل عامل أو باحث عن العمل.
اشتكت سيدة للرئيس السابق السيد معاوية معاوية ولد سيد احمد ولد الطيع من أن العناية بالمرأة لم تصل النساء ،ونخشى اليوم من أن يتكرر ذلك القول إذا لم يبادر إلي تصحيح اختلالات القطاع.