لقد أخرجت المقاومة الاستعمارية في موريتانيا أبطالا أشداء جاهدوا ودافعوا باستماتة عن الدين والعرض والمال، وباعوا أنفسهم رخيصة لله ، ولم تخف الأمة منهم نشوزا أو إعراضا، واستطاعوا بشجاعة وإصرار أن يدحروا العدو ويكبدوه خسائر في الأرواح والأعتاد،رغم الفارق الكبير والكبير.
وإذا كان الاحتلال الفرنسي بقوته العسكرية الهائلة قد تمكن من البلاد والعباد في وقت مبكر ، فإن المقاومة الشعبية ظلت له بالمرصاد مكتسية أبعادا روحية وثقافية واقتصادية تأبى الخنوع والاستسلام وترفع راية الصمود والممانعة في وجه الغزو العسكري والمسخ الثقافي، وبالتأكيد لم تكن تلك الأرضية صالحة لأن يغرس فيها المحتل أركانه، أو ينفث فيها من سم أفكاره، بل ظل يتوجس خيفة من جمر تحت الرماد ومجاهدين يتربصون به الدوائر ، فلم يتخذ دارهم له مسكنا، وكاد أن يرحل بخفي حنين.
لكن التوجه للاستقلال والذي فرضته عوامل وضغوطات خارجية وتوق داخلي للتحرر والانعتاق؛ قد أنتج صراعا قبليا وتحزبا سياسيا وجدت فيه فرنسا فرصة جديدة للتقرب أكثر من الشعب وزعاماته القبلية والسياسية ، حتى تقلل من مستوى الكراهية وتظهر أنها الأم التي رعت ابنها حتى بلغ الرشد أو يكاد يبين.
وسبيلا لذلك راحت فرنسا تدعم وتغري حلفاءها من الزعماء والسياسيين وتنتقي من بينهم من يصلح لأن يخلفها دون أن يقطع حبل الوصل المتين، وكان خريج القانون الفرنسي المختار ولد داداه هو الأقرب لتلك المسئولية، وعولت عليه فرنسا كثيرا في التبعية والولاء.
وتم ذلك الاستقلال الذي أريد له أن يكون صوريا لا أكثر، واعتبره بعض السياسيين مجرد اختفاءلملامح الاستعمار دون المساس بجوهره ووجوده، وظلت الدول العربية تنظر له بعين الريبة والشك رافضة الاعتراف به.
لكن الفتى الذي تخرج من المحظرة متشبعا بالقيم والمبادئ الإسلامية قبل أن يلتحق بمدارس الاحتلال، لم يلبث أن أعرض بوجهه عن فرنسا ليوليه شطر أمته ومبادئه، واتخذ قرارات سيادية عكست استقلالا حقيقيا جعل فرنسا تراجع حساباتها وتدرك أن اختيارها لم يكن صائبا، وبدأت تبحث عن بديل دائم يكون له تأثير على النظام مستقبلا.
وكان هذا البديل هو الشعب نفسه !، نعم ، وهي تجربة ناجحة معمول بها في بعض الدول المحتلة سابقا، ولاتقتضي إلا الكياسة والتدرج.
ولذلك فتحت فرنسا أبوابها أمام الطلاب والمتدربين من الضباط والجنود وتخرج منها الكثير من أبناء أولئك المقاومين، بل وساعدت في الرفع من مستوى التعليم والتكوين داخل البلد، وكانت لها مساهمة كبيرة ودور واضح في إعداد المناهج التربوية،كما مدت يد العون وأرسلت بعثاتها الانسانية المبشرة بمد جسور المحبة والسلام، وكل ذلك والشعب الموريتاني قد نسي وصية الأجداد" لا اتخلي النصراني يحسن اعليك خوف تبقيه"
وإذا كانت العلاقات مع فرنسا قد عرفت فتورا وركودا في بعض الحقب السياسية، فإن نفوذها ظل ظاهرا للعيان وكانت وراء انقلابات عسكرية خاصة على نظامي ولد داداه وولد هيدالة الذين رأت فيهما خطرا جسيما على مصالحها وبقائها في هذه الربوع.
وبعد سنين من الدعم والإرشاد واتساع النفوذ، تبدأ فرنسا حصاد مازرعت، مع بدء الدولة الموريتانية تشديد الخناق على الدعوة والدعاة إيمانا منها أنها سبب لنشر الإرهاب والتطرف،وهو والله عقوق لأسلافنا الذين دافعوا عن الاسلام وتعاليمه، ثم هل يحارب الغلو والتطرف بسجن أصحاب الوسطية من العلماء والدعاة والمصلحين؟
ومع مرور الأيام يبرز النفوذ الغربي جليا في القمة والقاعدة على حد سواء، ويصبح في موريتانيا من يحرق كتب الفقه والحديث إيمانا منه أن أصحابها يحرفون الكلم عن بعض مواضعه، ثم يكتب آخر - وقد أنساه الشيطان ذكر ربه- مقالا مسيئا لمن جاء رحمة للعالمين يتهمه فيه بالعنصرية! وتتوالى الأحداث وتدنس المصاحف ويتهم رب العزة والجلال بعدم العدل بين الرجل والمرأة ويطالب بإعادة النظر في الميراث! وكل ذلك لم يقع في أرض كفر وإلحاد بل في بلاد شنقيط أرض المنارة والرباط، ومن خلف عق السلف.
وقد أدركت فرنسا هذه المرة بسخائها ومساعداتها للخلف ما لم تدركه بالقوة والجبروت مع السلف.
وكانت تلك الأحداث متزامنة مع صراع محموم وتنافس غير مسبوق على السلطة بين المعارضة والنظام، وللأسف كانت المحاظر والمعاهد الدينية والجمعيات الخيرية هي ضحية ذلك الصراع السياسي أو عشب أرضيته، بدل أن تكون نقطة اتفاق ومجالا للمنافسة والسباق، وفي ذلك فاليتنافس المتنافسون.