".. و أما المشبع بمحتوى العلوم فإنه يصبح فاعلا سلبياً، عندما يدير ظهره لتوعية الآخرين"
لا يختلف اثنان على أن جل أواني المعارف في البلد مليئة بالقدرات العالية و محفوفة بالنوابغ الألمعيين النادرين. حقيقة لا يضاهيها إلا ما يحاصر هذه القدرات العالية و هؤلاء المثقفين الأفذاذ و النادرين،
من شديد إفك التقدير المقيد بالاستعلائية عن الحضور المسرحي المنشود و التقاعس عن أدوار البذل و العطاء المشارك المنوطة بهم و قد هيأتهم يد الأقدار لذلك.. تقديرات مبتورة من نقاء الصفة استطاعت أن تقلب موازين الحق و تحولها إلى مقاييس التدليس حتى غطت سُحُبُ الغدر التقديري الباطل صفاءَ نشر و استغلال المعارف و العلوم في متسع ساحة البلد الحاضنة و إمساك عصى التوجيه و الريادة، و حتى أغلقت أيضا بحشوها النتن منافذ استنشاق عبق العلم بكل مخرجاته الزكية و تجلياته المضمخة هي الأخرى بشذى الرؤى البناءة و عوامل تزكية النفوس العظيمة لتَحرِم بالنتيجة المُرة عامةَ المتعلمين المشرئبةُ أعناقهُم إلى الاستزادة من خاصة المنتجبين و زمرة العارفين، متحفزين لتلقف فائض الفريقين من علم و ٍمن علو رغبة عارمة في بناء النفوس و إعداد الإرادات استعدادا لخوض ملحمة تشييد صرح البلد و إعلاء راية رفعته من بعد تمريغها في وحل اللامبالاة.
و إذ الأمر كذلك فأنى لأي عذر أن يستقيم مطلقا لهذه الصفوة ـ المكبلة بأصفاد قوى التمييع و تكريس حكم الرداءة ـ لتبرر به تقاعسها عن شغل الواجهة الأولى و الجلوس على كراسي منبرها ـ وهي الكراسي التي لا تتسع إلا لها صفوة من المثقفين الفاعلين الإيجابيين ـ عند كل مدرك إشعاع يسطع من وراء الأفق مهما تنوعت الحجج الواهية و أيا كان لبوسها و من دون المثقفين السلبيين passifs و الخاملين inactifs و الحائرين indécisو التابعين dépendants مهما كثر عديدهم. ثم إنه لا مناص البتة من الجهر بالقول أنه من باب الوجوب لا غيره أن تتبوأ هذه الطلائع مكانها الطبيعي مهما كلفها الأمر إلى ذلك من تضحيات و من دفعها إليه في خوض كل السجالات دون استعلائية أو تأفف أو استصغار لشأن موضوع، لأنها إن قبلت الرهانات و رفعت التحديات بكل أحجامها و مختلف مستوياتها و متنوع طويتها، هي الغالب في آخر المطاف بحيث تكون قد أدركت أن كل إناء بالذي فيه ينضح كما قال علي بن أبي طالب:
ملكنا فكان العفو منّا سجيَّة فلمّا ملكتم سال بالدَّم أبطح
فحسبكم هذا التّـــفاوت بيننا فكلُّ إناء بالّذي فيه ينضح
و إلى أن تتنزل على الصفوة المشلولة جزئيا في عموم أعدادها و تباين أدائها و تفاوت مستويات عطائها و ضعف بروزها و شبه جمودها في بروجها العاجية، شآبيبَ رحمات التواضع و عارمَ رغبة العطاء و سلطانَ الجموح إلى النزاهة الفكرية و المصداقية العلمية و التحرر من ربقة "الأنا" الضيقة عند العطاء المعرفي و البذل التنويري، و تضخمها عند إبداء الرغبة الجامحة في المردود المادي و المكاني السلطوي أو على الأقل القيادي في دوائر التهافت.
و أيا يكون خيار النخبة حيال الوضع الراهن و ما يكتنفه من ضعف الحراك الفكري و تمييع لدور الثقافة و تقزيم شأنها رهان التحول ـ الذي يفرض نفسه بفعل ضغط العولمة ـ ما لا تشتهيه سفن الأمجاد الراسية على شواطئ بحر الركود، فإنه يظل بيدها وحدها زمام فعل التغيير لأنها من يمتلك بلا شريك الزناد و الحشوة و فعل الطلق، فإن تشأ تصوب فتصب مقاتل هذا الجمود و إن تشأ تطلق على غير هدى فتبدد في خواء الضياع محتوى الحشوة من الآمال المتقدة.
فمتى يدرك أفراد النخبة الأنقياء من شوائب المجد الزائف و "الأنا" المضللة أنهم ربابنة السفينة الراسية من أعطاب و أن التاريخ لن يتجاوز عنهم ضلالة الامتناع عن إصلاح الأعطال و رفع الأشرعة و مخر عباب بحر الظلام إلى شواطئ الأمان المضاءة بمصابيح أداء الواجب. و عندئذ فقط سيتبين دور المثقف في تحديد سمة المرحلة التي يمر بها الشعب و الدولة، والتي هي في واقع البلد الراهن "مرحلة التحول من نمط اجتماعي بدائي و غير حضاري بات غير ملائم إلى نمط جديد يعتمد في مدنيته الوعي مسلكا و العلم أداة و الفكر نبراسا.
و لأن فعل التغيير في حد ذاته فعل إيجابي، و هدف التغيير الإيجابي هو بناء الدولة الوطنية المستقلة المنتجة، والمجتمع الصحي المعافى و المتعلم المبدع، الذي ينتفي بداخله استعلاء الإنسان على أخيه الإنسان و استغلاله في غياب الوازعين الديني و الأخلاقي، ويزول التمييز بين مواطنيه، ويحقق حماية المجموعات و الشرائح الضعيفة و المغبونة و المهمشة من المجتمع، فإنه لا يستطيع الاضطلاع بذلك الدور المكثف إلا المثقف الفاعل و الإيجابي الذي يمتلك الوعي التاريخي، ويستخدم الأدوات المعرفية في تحليل وتشخيص الواقع القائم على النقيض تماما من المثقف الخامل الذي هو شخص بطبيعته فردي و أناني رغم امتلاكه أدوات المعرفة، و الوعي و الثقافة، إلاّ انه سلبي وعاجز عن التفاعل مع الآخرين، و يرى نفسه غير معني بفعل التغيير من حوله.