القاعدة الفقهية و القاعدة الانثروبولوجية / احمد سالم ولد عابدين

"الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، قاعدة شهيرة في المجال الفقهي و قوية جدا إلى درجة أن اختلاف المذاهب لم ينل منها و إنما زادها استحكاما.. إنها قاعدة منطقية قبل أن تكون قاعدة فقهية..
لكن نقيض القاعدة السابقة هو الصحيح في العوالم الاجتماعية..

"تصور الشيء فرع عن الحكم عليه".. إنها القاعدة التي تسير عليها العلاقات الاجتماعية الثقافية في أي مجتمع من المجتمعات.
إن "العقل الاجتماعي" الذي يتفتق تبعا له الوعي الفردي في أي مجتمع يتكون من موروث "غير مكتسب" من العادات و الأحكام القيمية تجاه الجماعات الاجتماعية الأخرى..
في المجتمع الموريتاني نجد التجليات الواضحة للقاعدة. فالمدونة الأدبية الموريتانية و كذلك العديد من الفتاوى الفقهية زاخرة بالأحكام المسبقة عن "الآخر". هذه الأحكام التي يتربى عليها الطفل و يتمثل من خلالها هذا "الآخر" و ما ستكون عليه طبيعة التعامل معه في المستقبل. هذه الأحكام المسبقة ينتج عنها تصور تقزيمي و اختزالي "للآخر" (و من هنا كان نقيض القاعدة الفقهية السابقة صحيحا)..
هكذا نتعلم في طفولتنا الحكم على "الآخر" قبل أن نعرفه قبل حتى أن نراه.. و نتعلم الحكم على "ذواتنا" الفردية و الاجتماعية  قبل أن نعيها..
هكذا نكون" نحن" الأفضل دائما، الأصلح، الأجمل.. بينما يكونون "هم" على النقيض تماما..
و هكذا تصورنا "لمعلم" و تمثلناه على انه شخص جبان و نهم  يفقد سيطرته في حضرة الطعام..
هكذا تصورنا" الزاوي" شخصا حقودا حسودا يبطن دائما عكس ما يظهر و لا يحب الخير إلا لنفسه..
هكذا تصورنا "الحرطاني" شخصا لا يفكر، كل همه هو الأكل و النوم..
هكذا تصورنا "العربي" شخصا قاطعا للطريق لا يتوانى عن اغتصاب حقوق الآخرين.. و تصورنا " إيكيو" على انه شخص طماع لا هم له سوى طلب المال..
إن هذه "التصورات" الاجتماعية هي "فرع" عن "حكمنا" على الجماعات الأخرى..
لكن، و لكي نكون منصفين.. فإن مجتمعنا لا يختص وحده بصدق القاعدة.. فلقد اثبت غالبية علماء الانثروبولوجيا الذين يدرسون المجتمعات" البدائية" و كذلك اغلب المختصين بعلم النفس الاجتماعي أن هذه القاعدة هي من القواعد "الكونية" في الثقافة، على قلة هذه القواعد..
و من هنا تصدق الفرضية القائلة بحمل الجينات لإرث "لا طبيعي" يخص البشر..
لقد كان عالم السيكولوجيا الشهير "كارل غوستاف يونغ" يحدس بقوة عندما تحدث عن "لاشعور جمعي" يحكم كل البشر، قبل أن تلتقي البحوث البيولوجية المعاصرة و البحوث النفسية و الانثرو ـ سوسيولوجية في تقرير فرضية يبدو أنها ستصبح مسلمة علمية، تعترف هذه الفرضية بوجود إرث غير "بيولوجي" لدى البشر ينتقل عن طريق البيولوجا..  ستكون هذه القضية في القريب العاجل حقيقة تزعزع مسلمات البيولوجيا في ما يخص النقل الوراثي على الكروموزمات. من يحمل هذه "الشفرة الثقافية"، هل هو الDNA  الذي يحمل الإرث البيولوجي؟ أم أن هذا الإرث محمول على ناقلات أخرى لم يتوصل لها العلم بعد؟
يبدو انه ما إن يجتمع طفلان أو أكثر، في أي مكان من العالم  حول الشاطئ حتى يبادروا إلى بناء الكهوف الطينية، لقد استنتج علماء الانثروبولوجيا و علماء النفس أن ذلك يعني انتقال "إرث ثقافي" موغل في القدم، عندما كان الناس يسكنون الكهوف، و يتم هذا الانتقال عبر الزمان و المكان دون أي عملية تعليمية..

إن تمثلاتنا للعالم الاجتماعي تكون في العادة نابعة من الأحكام المسبقة التي نتعلمها في الصغر..
الدين الإسلامي نبه كثيرا إلى ضرورة أن نقف على مسافة متساوية من "ذاتنا" و من " الآخر" حتى يمكننا تصور هذا الأخير في معزل عن الحكم المسبق عليه.. و انطلاقا من هذا التنبيه وحده يمكننا رد القاعدة الانثروبولوجية السابقة إلى نقيضتها الفقهية..
هكذا يمكننا تهذيب القاعدة الجبرية عن طريق الإصغاء إلى الإملاءات الدينية لكي نعلوا فوق مستوى حيوانيتنا.. و بهذا فقط تتأكد إنسانيتنا المطلوبة دائما.

8. فبراير 2016 - 9:37

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا