لا بد لمن يريد أن يتحدث عن التجديد في فن ما من أن يلم بنشأته ومراحل تطوره حتى يتجلى هل حصل تجديد في ذلك الفن أم لا، لكن المتتبع لتاريخ الشعر الحساني يدرك من دون كبير عناء أن أصحابه لم يفتؤوا يحاولون التجديد
منذ فجر تاريخه، وقد شملت تلك المحاولات هذا الفن شكلا ومضومونا، كما سنرى في هذه الورقات التي بين أيدينا.
بدأ الشعر الحساني أول ما بدأ وهو منصب حول غرض واحد، هو تمجيد الأمير، كذكر بطولاته والإشادة بها، وذكر مآثره ومآثر آبائه وأجداده... لكن سرعان ما تطورت مضامين النص الحساني، فقد طفقت الطلعة تطرق أبواب الأغراض الشعرية الواحد تلو الآخر، حتى لم يبق غرض إلا تناولته، حيث اتخذ شعراء الحسانية هذا الشعر لغة مشاعرهم وعواطفهم، فتغزلوا بالغواني، وبكوا الأطلال، ونهشوا الأعراض، إلا أن بواكير هذا الفن ظلت تطبعها المباشرة والسطحية فترة من الزمن، بفعل تدني مستوى الانفتاح لدى هؤلاء الشعراء وجمهورهم.
ثم بدأ النص الحساني يتطور شيئا فشيئا حسب وعي وانفتاح منتجيه وجمهورهم، خاصة بعد ازدهار الثقافية العربية الإسلامية، وذيوع وانتشار قصائد لكبار الشعراء في مختلف العصور بين ساكنة هذه الربوع، حتى أصبح شعراء الحسانية يستعملون الصور البديعية، بل يحملون النص الواحد أكثر من صورتين من أشرف صور البديع، كما في قول ولد محمد خوي:
في الصَيْفَ ﯕـالو لخطاطـــيرْ = البل عَنْد اهْل ابّـــاه ارْﯕـأﯕ
نَعْرفْها ﯕـاعْ آن في الطّيـــــرْ = البل عَنْد اهْل ابّـــاه ارْﯕـاﯕ
ومع مرور الوقت أخذ الشعراء يسمون بأشعارهم إلى ما ينسجم مع تطور الحياة والذائقة الأدبية، فظهر شعراء يحملون نصوصهم أبعادا مجازية وتصورية لم تكن مألوفة لدى زملائهم من شعراء الحسانية، بل تندر عند شعراء الفصحى، كما نجد في كاف الطلعة التالية للشاعر احمدو سالم ولد الداهي:
عيدك يَمْرَيَّمْ ماهُ فــــــــــــــاشْ = واكْصَرْتِ فيهْ ؤُ عندكْ بــــــــاشْ
حَصْرُولكْ فرْﯕـانُ واحـــــراشْ = فيهْ الفَيْش ؤُ جَيتيهْ انْــــــــــــــتِ
واكْتلْ لعْلَيات التّخْــــــــــــواشْ = منّكْ واسكتِّ واسْكنْــــــــــــــــتِ
ؤُتَمَّيْتِ باشْ اجْتَمْعُ بــــــــــاشْ = ازْينْتِ في العين ؤُ بنْــــــــــــــتِ
ؤُيمْريَّمْ ما شَطْنكْ لـــــــــﯕباحْ = انْتِ ﯕـاعْ امريمْ كنـــــــــــــــــــتِ
وامْنَيْن اخْلـﯕ لـﯕباح ؤُ بـــــاحْ = ما عاد امْريَّمْ كُون انْــــــــــــــــتِ
كما أخذوا يهتمون بمشاكل مجتمعهم ويحملون همومه، فقد مجدوا أبطال المقاومة، وتغنوا ببطولاتهم، وفضحوا المتعاونين مع المستعمر، ونعتوهم بأبشع النعوت، ولن أطيل بذكر النصوص الواردة في هذا المجال لشهرتها بيننا.
وبعد ما ذكرنا من تكريس النصوص الحسانية لصالح صاحب السلطة، أصبح الشاعر يسدي إليه توجيهاته، بل وربما تهديداته، وهو ما حدث في عهد مبكر من تاريخ الدولة الحديثة، وهو ما نجد عند الشاعر احمد سالم ولد ببوط في ثلاث "طلع وكاف" مخاطبا الرئيس المختار ولد داداه، ونورد هنا الطلعة الأولى والكاف، يقول احمد سالم:
ﯕـولو للْمختار إلى عــــــــــــــادْ = مارﯕ فيه إشَيَّدْ لَبْــــــــــــــــلادْ
موريتان إدُور اتِّحـــــــــــــــــادْ = حـﯕ ؤُ يـﯕبَظْ لُ حـــــــــــــــريَّ
ما فيهَ شرط افْلقتصــــــــــــــادْ = وافْخَيْرات البلَـــــــــــــــــــــديَّ
ؤُ لا ينْحَبْسُ فيهَ لَسْيـــــــــــــادْ = الِ إﯕـودُ لَكْثَــــــــــــــــــــــــريَّ
ؤُ لاهِ مَـﯕَبُوظَ بالتّهْـــــــــــــدادْ = بالقوات الفرنســــــــــــــــــــــيَّ
غير اﯕبَظْ حرِّيَّ بالشَّعــــــــبْ = ؤُ خاوِ شُعوب إفريـقـــــــــــــــيًّ
واتْأيَّدْهَ دُوَلْ لعْـــــــــــــــــرَبْ = ذاكُ برهان الحــــــــــــــــــــرِّيَّ
وبعد ظهور الدولة الحديثة وتطور وسائل الاتصال وانفتاح المجتمع على العالم الخارجي، ظهرت جماعة من الشعراء تحمل هموم الأمة وتدافع عنها، تفرح بأفراحها وتترح بأتراحها، فهذا الشاعر حسني ولد شاش يطلق الغزل طلاقا لا رجعة فيه ما دامت الأمة الإسلامية تعيش الوضع المتردي الذي تعيش اليوم، فيقول من نص طويل:
غير الدَّهْر اليوم الَّ عـــــــــــاد = ما يَسْمَحْ بالسَّغم ؤُ لَوْجــــــاد
ألا ﯕـولِي لِي يَلْعـــــــــــــــــرّادْ = اعليك انْغَنِّ باسم الحــــــــــالْ
والقدس الشريف ؤُبغـــــــــــدادْ = اليوم افْقبْضتْ لحْتــــــــــــلالْ
ثم بدؤوا يتصرفون في نظام تقفية النص الحساني فيطالعنا الأديب الشاب احمد ولد الوالد بنص خرج فيه على نظام التقفية المعهود للنصوص الحسانية، مع التمسك بالنظام الإيقاعي القديم، وبالمفردات التراثية والتي لا تزال متداولة اليوم فيقول:
الوِحْدَ والوفاق النـــــــــــصْ = ؤرص الصفوف اعليهم نـصْ
ؤنص اعْل ردم الشين نــصْ = حل المشكلات الْ فيـــــــــــنَ
بالوحد والوفـــــــــاق ؤرصْ = الصفوف ؤردم الشيـــــــــــنَ
واحن كمسلمين النــــــــــصْ = الّ جانَ منْ عربيـــــــــــــــنَ
بالوحد والوفــــــــاق ؤُ رصْ = الصفوف ؤُ ردم الشِّيــــــــنَ
اعلين نمتثلوه إخـــــــــــــصْ = بينَ واعلَ ذاك اعليــــــــــنَ
بالوحد والوفــــــــاق ؤُ رصْ = الصفوف ؤُ ردم الشِّيــــــــنَ
ؤُ مهمِّينْ امنينْ اتخـــــــرَّصْ = تلحـﯕ نجْحتْ كل امْديــــــــنَ
بالوحد والوفــــــــاق ؤُ رصْ = الصفوف ؤُ ردم الشِّيــــــــنَ
واحن شعب ؤُ معروف انّ اصْـ = ـــل الوحد فامر إﯕـانيـــــــنَ
بالوحد والوفـــــــــاق ؤُ رصْ = الصفوف ؤُ ردم الشِّيــــــــنَ
والْ منَّ لاهي يتخصــــــــصْ = يتْخصَّصْ باش إداويــــــــنَ
في لوحد والوفــــــاق ؤُ رصْ = الصفوف ؤُ ردم الشِّيــــــــنَ
والمن ﯕط امْـــــشَ وانـﯕــصْ = منْ وحدتن ذاك إجيـــــــــنَ
للوحد والوفـــــــــــاق ؤُ رصْ = الصفوف ؤُ ردم الشِّيـــــــنَ
أﯕـبظْ في التاريخ اتْفحـــــــصْ = أوايلْنَ منْ ماضيـــــــــــــنَ
بالوحد والوفــــــــــاق ؤُ رصْ = الصفوف ؤُ ردم الشِّيــــــــنَ
ابْناو أراضينَ والْ خـــــــــــصْ = نبْنُ نحن لرَاضيـــــــــــــــنَ
بالوحد والوفـــــــــــاق ؤُ رصْ = الصفوف ؤُ ردم الشِّيــــــــنَ
ومن مظاهر التجديد عند هؤلاء أيضا كثرة استعمال "لمـﯕـالعْ" خاصة في الأمور التي تهم الجميع، حيث يتقدم أحدهم بلازمة يدعو إلى إجازتها، فتأتي تلبية الطلب حسب أهميته، ومن أشهر ذلك ما حدث مع "مـﯕـلعْ" قدمه أحدهم نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حادثة الرسوم المسيئة، وقد لقي تجاوبا أكثر من غيره، ويقول المـﯕـلع:
اصْبرْنَ واصبرْن يغيــــــــــرْ = انْبينَ دونُ خط احمـــــــــــــرْ
ومما نظم في هذا المـﯕـلعْ قول بعضهم:
ما ريتُ منّ كون الخيـــــــــرْ ؤُ لا ريْنَ منكمْ كون الشــــــرْ
اصْبرْنَ واصبرْن يغيــــــــــرْ انْبينَ دونُ خط احمـــــــــــــرْ
وقول الآخر:
اطلبت الل يعْطيكم طيــــــــــرْ = أبابيل ؤُ ريحا صرصــــــــرْ
اصْبرْنَ واصبرْن يغيــــــــــرْ = انْبينَ دونُ خط احمـــــــــــــرْ
وقول الآخر:
اصبرن لكتيل ؤُ تدميـــــــــــرْ = البنْيَ واصبرن لعكـــــــــــــرْ
واصْبرْنَ واصبرْن يغيـــــــــرْ = انْبينَ دونُ خط احمـــــــــــــرْ
وقول الآخر:
العراق ؤُ دمّرْ تدميــــــــــــــرْ = واصبرن والقدس ؤُدمّـــــــــرْ
اصْبرْنَ واصبرْن يغيــــــــــرْ = انْبينَ دونُ خط احمـــــــــــــرْ
ويضيف الأديب والباحث بودرباله ولد البخاري إضافة نوعية إلى التجديد في الشعر الحساني، عندما يدخل شعر التفعيلة في النظام الإيقاعي الحساني، مع اعتماده التبسيط في استخدام الأساليب اللغوية، فاستخدم مفردات وصيغا من لغة التخاطب اليومي مع انتقاد ما كان شائعا بيننا من عادات وتقاليد سلبية.
فمن نص يعالج فيه الأديب بودرباله كشف واقع معاناة الفتاة الموريتانية، التي تطاردها عادات المجتمع وتقاليده، مجتمع يرى أخذ المرأة حقها خروجا على المألوف وجريمة أخلاقية لا تغتفر:
عيشة اتعدل س ؤُ متفوقه كانـــــ ــــــت ؤكان طموحها اتعود عالمت رياضيات رايدت فضا باحثه وقل تقدير أستاذت الجامعه وامها اتزور ؤخالتها اتحجب الها عن ذاك الْ واقع الها عند جيرنو اكبير حجب لسويلمه كيف تعرفي اتكول خالتها، ؤُرات مدير أسغر منها ابعشرين سنه، ؤُلا اتطيح حكمتو، سولي امينه الْ رد الها محمد امنين خلاها ؤُ طاها الدار، واعل أبدو اعل افاتو بآجويكير.
ويكرر ولد الوالد الكتابة بطريقة نظام التقفية التجديدي ذاته، الذي استخدمه في نصه الغابر، ولكنه يقطع أشواطا عدة نحو الحداثة والتجديد، عندما نراه يدخل بأسلوب جديد، وبلغة جديدة في نقد مبطن لواقع الأحزاب وكثرتها، وانتشار الشعارات الجوفا، فيقول:
الديمقراطي والعــــــــــــــدلْ = والحري والمســــــــــــــاواتْ
شعار الحزب المعـــــــــــدلْ = ظرك ؤُ شعار الحزب الْ فاتْ
الديمقراطي والعـــــــــــــدلْ = والحري والمســـــــــــــــاواتْ
وإلى ج حزب أوخرْ وادخلْ = ذ هوَ شعارُ بالـــــــــــــــــذّاتْ
الديمقراطي والعـــــــــــــدلْ = والحري والمســـــــــــــــاواتْ
وإتم الشعب إعيش افظـــــلْ = مجرد ش امن الشعــــــــاراتْ
الديمقراطي والعـــــــــــــدلْ = والحري والمســــــــــــــــاواتْ
يغيرْ امنين الِّ يعـــــﯕــــــــلْ = يعرفْ عنْ سببْ لَزَمــــــــــاتْ
الديمقراطي والعــــــــــــدلْ = والحري والمســــــــــــــــاواتْ
ثم يبلغ التجديد أوجه مع الأديب حسني ولد شاش الذي يعتبر أول من أدخل الحداثة إلى الشعر الحساني، وهنا نورد له نصا خرج فيه على طريقة التقفية المعهودة، مع الإيغال في الرمزية والإبهام، متحررا من كثير من القيود العروضية، والتي يراها رواد الحداثة أغلالا تكبل أفكار الشاعر، وإن كان صاحبنا تمسك بالأوزان القديمة، يقول حسني:
لا تمْشِ عنَّ يمَّيْــــــــــــــمَ = والظلْمَ ﯕـدام الخيـــــــــــــــــمَ
والحاس عطشان، ؤُ جيعانْ = أواجيل ؤُ لحمار انهـــــــــــانْ
واهل الكهف ؤُعاو ؤُ وعـــاو = الدهر ؤُ وعاو البـــــــــــــلادْ
.............................
لا تمش يميم واللــــــــــوحْ = اعل عاد المصحف مطــروحْ
والعَقل ؤُ لَقْلام انغـــــــــدْرُ = والميزان احجارُ مَــــــــــــــرُّ
.................................
والفن اطّوُّرْ عنْ مجـــــالْ = تذكار الدار القديـــــــــــــــــمَ
والتيدنيت اعل لطــــــلالْ = مزالتْ تبكِ يميـــــــــــــــــــمَ
ألقيت هذه المحاضرة في أمسية نظمها منتدى الآداب والمعارف في قاعة العروض بالمتحف الوطني، مساء التاسع عشر من الشهر الجاري.