من قائلين بأن القبلية أصبحت من الماضي و أن التعامل بمقتضاها ما عاد حقيقة ماثلة و فعلا مؤثرا في مجريات سير أمور المجموعات مع الدولة والمجتمع؟
و من قائلين بالمقابل إنها ما زالت حية و قائمة بكل تركيبتها و حضورها و تأثيرها في مسار عموم حياة البلد،
تتقهقر تارة و لا تتلاشى و تعلو تارة أخرى بقدر ما يحققه أفرادها من أسباب المنعة المعنوية و المادية و بقدر ما تُصرفه في دائرة التحالفات التقليدية أو المستجدة بمنطق تقلبات الشأن السياسي و تمنطق التموقع الاستراتيجي الذي حل محل التوازنات التقليدية بقوة السلاح على ضعفه بالمقاييس الموضوعية، و المكانة العلمية المحلية على نسبية ألمعيتها بمقياس التجرد و التواضع و الصدق مع لله؟
و لقد ظلت كل التصريحات التي تصدر،عن الدوائر الحكومية منذ الاستقلال، و عن كل الحركات السياسية طيلة مسارها النضالي، و الأحزاب بكل تشكيلاتها و توجهاتها، و المنظمات الغير حكومية بكل اهتماماتها و تشعباتها، تريد لخطاباتها و فلسفاتها و مقاصدها و تعليماتها أن تكون هي التي حاربت "غول" القبلية و أرغمته على التقهقر إلى ما يعانيه اليوم من موت سريري و تقلص سطوته و مفضوح إيثاره للمنتمين لدوائره أثناء قوته على حساب غيرهم. و رغم ذلك فإن نسبة نجاح كل هذه الادعاءات جد ضئيلة لما تغالط فيه نفسها و لا يخفى على غيرها بتشبث أفرادها بقبليتهم داخل أطرهم الحزبية و في الصميم من كل تنظيماتهم الأخرى على اختلافها حتى أنها لم تستح من تعريفها بأسماء مؤسسيها و تنعتها بانتماءاتهم القبلية الضيقة دون أن يزعج ذلك أيا كان و لا أن يعترض عليه.
و أما الذين يعلنون جهارا نهارا، من غيظ و من حسرة و إرادة سعي إلى تغيير، بأن القول صراحة و جرأة بوجودها واقعا أليما قائما يجزمون بأنه الأقوَمُ قِيلا و الأثبت وجودا و إن يستطردون أن تبدلت السياقات و الاعتبارات داخل البعد القبلي الأصلي و تحولت المضامين و تقلصت التشكيلة بخروج الأطراف و الحواشي و الأتباع و الدخلاء. إن هؤلاء لا يستخدمون الحيل اللفظية و السياقية المصطنعة لإقامة مفاهيم مغالطة كما لا يسلكون فجاج التبرير الملتوية للقول إن الأمر تحول من قبلية شاملة ـ كان لها على علاتها عديد الفوائد و قرب معنى يلامس مفهومها الأصيل ـ لاستخلاص أن "القبيلة" بذلك اغتيلت و "القبلية" و إن ظلت متدثرة بالقبيلة دِرعَ مُحارب فإنها تقمصت روح "الأرستقراطية" الأسرية الضيقة المستأثرة بكل مقومات القبيلة و شوكتها في الماضي. و هي اللعبة التي و إن كانت لا تخفى على أحد فقد استطاعت أن تقتل القبيلة حتى أصبح الحديث عنها إنما يكون من باب الجرم الصريح فيما العمل بكل سيئاتها فحسب واقع دامغ يقوض أركان دولة المواطنة المدنية و يكرس محاصصة لا يراد لها أن تذكر و تفضح و تحارب و أن تظل تنمى خداعا و مغالطة إلى الكيانات و الكتل السياسية الوازنة في البلد و إذ لا يمكن منطقيا بقلة أعدادها أسرا أرستقراطية أن تفوق وزنا كل شرائح قبائلها الأصلية و حلفائها و دخلائها من الذين انتسبوا إليها يوما و لم يكونوا منها من قبل.
و مما زاد الحال القبلي تعفنا، أن الأرستقراطية القبلية المولودة بعملية قيصرية للقبلية التي أجهزت على القبيلة، هو ما يكون من ظهور أقطاب تستأثر بالمال و الجاه و التعليم المتقن لأبنائها في أحضان المدارس الأجنبية و الجامعات و المعاهد الغربية لترث مكانها و تديم أطرها الضيقة على حساب و ضياع الأغلبية الساحقة من أبناء الأمم المتعددة.. واقع دام العقود الخمسة و النصف و ترك بصمة لا تحتمل من التخلف و واقعا لا يمكن أن يستمر لما قد ينجر عنه يوما من التعبير المتفجر عن رفضه فرض تصحيحه. و حينها يكون التصحيح في غير صالح من كانوا السبب في قلب للسحر على الساحر أو إدانة فاعل بما أدان به ظلما مفعولا. فهل يُستفاق من وعي على اعوجاج وضع و يُتفادى من غير تملق السقوط إلى الهاوية؟ و ما أدرى الغافلين ما هي؟ سحيقة من كل نجاة خالية..