الحركة الإسلامية الوسطية ليست حركة إصلاح ديني فقط – وإن كان ذلك أسمى أهدافها – لكنها في نفس الوقت حركة بناء حضاري ونهضوي تنشد جلب السعادة للناس في حياتهم والفلاح لهم في معادهم. ولقد انطلقت الحركة الإسلامية من مفاهيم الشمولية في الإسلام التي أبدعت في شرحها نظريا، وبنائها
مؤسساتيا، فحولت شُعب الإيمان إلى مشاريع نفعية تأخذ طابعا مؤسسيا تحرك به أبناؤها المخلصون إلى أرجاء أوطانهم، فنفذوا إلى المناطق المحرومة يحملون ما استطاعوا من حاجيات الناس التعليمية والغذائية والدوائية، وأسسوا مراكز الأيتام ورعاية الأرملة والمسكين كما أسسوا للمجتمع المدني الحقيقي مثلما هو عند الغرب مطلقين حزما من الجمعيات الخدمية في كافة مناحي حياة المجتمعات المنكوبة بالتخلف والطغيان.
وقد أخذت تلك الاهتمامات من روضة الطفل المعتر إلى المدارس الحديثة والجامعات العلمية وأندية الشباب والمستشفيات وألوان الخدمات الإعلامية مرورا بأحزاب السياسة وحتى حماية المستهلك ولم يبق مجال خدمي إلا ودخله الإسلاميون بأفكار عملية خلاقة كان الوقود الرسالي المحفز الأساسي لحركتهم في المجتمع، حيث أعطاهم دفعا قويا إذ لا مستحيل أمام دفق هائل من الفكر الناضج والعاطفة الجياشة والخبرات المتراكمة وروح البذل وصدقية المشرفين، وهو ما ساعد على إنجازات ضخمة يشرف عليها مضحون يغيب من قاموسهم المستحيل.
ولقد استوعبت ساحة النشاط المتنوع أجيالا من المنتمين للصحوة الإسلامية والعاملين للإسلام عبادة لربهم وخدمة لمجتمعهم، وأعطتهم شعورا بأنهم يقدمون شيئا ولو يسيرا لأمتهم. وقد ألهاهم إطعام الجائع وتعليم الجاهل ودواء المريض عن التفكير السياسي العام، وأعطاهم شعورا بـ"الشبع" الموهوم، فطفق كثير منهم لا يعبأ بالعمل من أجل التغيير الجذري والإصلاح الديمقراطي لأنهم يجدون من المؤسسات والفرص ما يقومون من خلاله بواجبهم في الخدمة العامة للمجتمع والدين.
وقد أخرجت هذه الوضعية من معادلتنا السياسية جمعا لا يستهان به من المؤمنين بالمشروع الحضاري الحديث والعاملين له أخرجتهم من دائرة الاهتمام بالسياسة أو التفكير في جدوائيتها منشغلين بمشروعاتهم الخدمية، إذ كل همهم الحفاظ عليها وتدبير قوامها مستمتعين بأثرها المباشر في التخفيف من مآسي المجتمع المطحون وكأن بناءهم تم في دولة تضمن الحرية وتتعامل بالقانون كالسويد أو سويسرا. إلى أن يفاجئهم مقياس "رختر السياسي" الذي ترصد من خلاله أنظمة الكبت العربية مختلف الأنشطة المؤثرة في المجتمع، فتفترس ما كان يحسبه الطيبون عملا حميدا، بينما تراه الحكومات خطرا داهما تجب محاربته لفائدة الطغم العسكرية المؤممة للمجتمع المسيطرة على السلطة والثروة التي تعتبر الدولة غنيمة يجب الحفاظ عليها لمخلوقات بعينها، فتقوم بتجريف عافية المجتمع ومكاسبه الذاتية كي لا يكون لأي جهة وجود مؤثر حتى ولو كان قانونيا وسلميا. إذ أن الأنظمة أضافت هذه الفئات من العاملين إلى قائمة الأعداء المتوجس منهم خيفة بل حولت منجزاتهم في المجتمع وما بنوا كبش عيد تقوم بذبحه كل ما اكتمل بناؤه الجسمي.
ولقد بذل الإسلاميون في موريتانيا جهودا جبارة في بناء المؤسسات وتعميم الخدمات منذ نشأة الحركة الإسلامية قبل أكثر من أربعين عاما لكن النظام العسكري ظل ينظر إلى تلك الجهود بحساسية مفرطة وظلت دوائر التقارير والمتابعة لا شغل لها إلا تحميل تلك الخدمات المتواضعة من الخطورة ووصفها بالأخطبوطية الملتهمة لمشاعر الناخبين المهيئة أرضنا الرخوة لسيطرة الإسلاميين.
وكأن الأمر سنة يحافظ عليها السابق واللاحق فقد أغلق نظام التسعينيات الجمعية الثقافية الإسلامية وحظر حفنة من النوادي والجرائد والجمعيات وعندما جددت الحركة الإسلامية الرخص وأعادت البناء ثانية جدد نفس النظام مسح الطاولة ثانية فأغلق جمعية الحكمة وجريدة الراية والمعهد السعودي الذي ركزت التقارير على أنه رافد ثقافي للإسلاميين خطير.
وأثناء فترة القوس الديمقراطي أيام حكم الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله أعاد الإسلاميون بناء سلة مؤسساتهم المتشعبة وانشغل بها غالبيتهم عن النضال من أجل إعادة الديمقراطية المنقلب عليها من طرف محمد ولد عبد العزيز وراهنت دوائر منا مؤثرة على تدين الرجل وعدم شهرته بخلفية إيديولوجية مناوئة للإسلام وأملت فيه حربا على الفساد وسلما مع التدين وأهله وبعدا عن الحرب العالمية على التيار الإسلامي المسالم القابل بالعمل من خلال مؤسسات الدولة.
لكن ولد عبد العزيز وبعد أن استتب له الأمر أكد ما كان يراهن عليه آخرون وإن كانوا قلة، حيث تعامل بحساسية مفرطة مع الإسلاميين تحت تأثير صناع التقارير المهولة لخطورة (حركة أخطبوطية تلتهم المجتمع وقريبا الدولة). ولم يكن للرجل من ثقافة الديمقراطية ومرونة التداول على الحكم ما يفرق به بين عمل مجتمعي مشروع يقبله القانون وتستوعبه الجمهورية، ولا سبيل حسب القانون والدستور لمنعه أو محاربة القائمين عليه إلا بدليل -وإن كانت منافسته مؤثرة - وبين أعمال ضارة يرفضها الدين وتمنعها قوانين الجمهورية. فأصيب بهستيريا خطر الإسلاميين التي طاردت سلفه دهرا وأعمته عن الخطر الحقيقي المزيل لحكمه المذهب لسلطانه مع أنه "لا هو هو ولا الأيام أيامه..."
فعمد ولد عبد العزيز إلى تطهير الوزارات والدوائر الحكومية من الموظفين الإسلاميين وقرر إغلاق جمعية المستقبل كما قرر الاستجابة للتيار اللائكي في البلد الذي يعتبر المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية شبكة عقارب يجب التخلص منه وحتى يدخل في جحر من سبقوه. قام بتغيير عطلة المسلمين التي أُعطِيَها محمد صلى الله عليه وسلم إلى عطلة النصارى وأسقط التربية الإسلامية من شهادة الثانوية العامة ووضع الحراسة على جمع من الهيئات الخيرية العاملة في البلد، طبعا ليس منها النصرانية العالمية التي تسرح وتمرح بدون رقيب كما أنه قرر شخصيا التضييق على العمل الخيري ورفض أي إذن خصوصا بحفر آبار للعطاش إذا كان طلب الترخيص من جهة خيرية إسلامية. وشن حملة شرسة على المعاهد والمحاظر في مناطق الحرمان التي تنتشر فها الأمية وتنعدم فيها فرص التعليم المثمر والتي ما يزال بعضها مغلقا تتكوم ألواحه ويضيع طلابه لأن نظام (القرظة) قيل له في تلك المعاهد والمحاظر فقام بتحريك أجهزة الدولة لا لتجارب الأمية وتقاوم الفقر بل لتفتش وتغلق وتحصي وتتوعد كل الجهود المخلصة الجالبة للخير النافعة لأهل العسر.
ثم أحاط الرئيس نفسه بحثالة من بقايا مرتزقة القذافي الفاشلين مثل سيدهم الذي لم يغنوا عنه من غضب الجماهير تلك الطغمة التي تقطر حقدا وتنفذ سموما، وليس لها وأخواتها من بارونات التسكع على بقايا موائد الحكام إلا التخويف من الإسلاميين والتهويل من شأنهم.
وفي ظل إمارة عزيز ودين حكمه وتحت سمع وبصر الدولة تم الاعتداء الجسدي على فضيلة الشيخ العلامة الرمز الشيخ محمد الحسن الددو بدون أن تحرك الدولة ساكنا كما كانت ستفعل لو أن المعتدى عليه من فقهاء السلطة المحترقة أشداقهم بمرق السلطان بل إن موقعا معروفا بالقرب من الدوائر الحساسة في الدولة نشر تحليلا مطولا لعملية الاعتداء وأثرها حسب زعمه في هدم هيبة الشيخ ومكانته عند الناس.
وتواصل مسلسل الرسائل السلبية والإجراءات الاستفزازية، فيقرر ولد عبد العزيز مضايقة الفضاء الإعلامي الحر والذي ظل منذ انطلاقه شوكة في حلق النظام بتلك الاستثناءات المحدودة الخارجة من "قبضة" الانفتاح المبرمج سلفا.
وعند ما قررنا منفردين دخول الحملة الانتخابية فأضفينا على جوها الكسيح حيوية وأعطينا النظام بدخولها شرعية قابل عزيز تلك الخطوة بحل جمعية المستقبل والتسويف في حقنا في زعامة المعارضة ثم قلص ميزانيتها ورفض احترام مميزاتها القانونية كما أن إدارته تعمل على إفراغ مكتسباتنا البلدية والبرلمانية من أي دور مؤثر وهو ذاته الذي أعطى الأمر بهدم حديقة بلدية عرفات حتى لا يتسنى للإسلاميين وضع بصمة تميز وجمال على بلدية انتخبوا من سكانها.
كما أن الموسومين بالولاء للتيار الاسلامي من التجار والنشطاء الكادحين في سوق العمل المبدعين في خلق الفرص من خارج حظوة الصفقات العمومية المحتكرة لرفاق (الكومسة )تتم مضايقتهم إلى درجة الإفقار الأمر الذي حمل الكثير من تلك النخبة المتميزة إلى الهجرة بعد شعورها بمرارة الظلم وشناعة القهر في بلد يحاول نظامه أن يقنع خيرته بأنه ليس وطن المساواة والعدل بل مجال لعصابة "المراسة" التي ترفع شعار "أخرجوا آل لوط..."
أليس من الضروري أن ننتبه للمجهودات الهائلة التي قمنا ببنائها في ظل أنظمة قمعية لا تقيم وزنا للقانون ولا تقدر العمل السلمي المدني فتكون نفرتنا من أجل الديمقراطية مع كل من يؤمن بها من المخلصين من شرفاء الوطن والحادبين عليه؟
والسؤال المطروح بإلحاح علينا كإسلاميين هو إلى متى ستظل جهودنا المخلصة تستنبت في ظل أنظمة استثنائية لا تقيم وزنا للدستور ولا للقانون تدير أمر الدولة والمجتمع بمزاجية تهدم ما بنيناه بشق الأنفس وعزيز المال؟
أليس أجدر بنا أن نشد المئزر ونوقظ المهتم ونتخفف من إكراهات الحفاظ على جهود جبارة خففت عن أنظمة الكبت الضغط الاجتماعي على خدماتها المتهرئة فنترك بينها وبين الفقراء والمحرومين ليدفع النظام أكثر وليواجه عسير سد حاجة الفقير المحروم؟
بل إن تلك الجهود أضحت ممكنة بدون مؤسسات تقليدية مكلفة في الإنشاء ومرهقة في الإدارة فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي بإمكانك أن تنظم أكثر وتنتج أوفر بكلفة شبه صفرية مثال الشاب الذي ضويق في مؤسسة تقليدية فتركها لعزيز وعيونه وأنشأ إدارة في الوتس آب تفرع عنها قرابة الألف من الأشخاص المنتظمين في مجموعات عبر قارات العالم تنشر الخير علما وفكرا وتجارب!
علينا إذن أن نقوم بالتركيز على عمل إعلامي وتعبوي أضحي سهلا ميسورا بدون كلفة تذكر، والدخول في تعبئة مفتوحة ضد الفساد والمفسدين، فنفضح الاستهزاء بالمواطن المغلوب على أمره في جرأة لا يخشى أهلها إلا الله وننشر ثقافة دولة الحرية والقانون والمساواة، ونبشر بأفيائها حيث الحرية التي تضمن الحقوق وتصون المنجزات لمن لا يرفع السلاح ويقبل بالآخر بغض النظر عن من ينتدب الشعب لقيادتها.
تلك الدولة الحلم التي يتعايش فيها الجميع بتنوع وتعدد تضمن له الحماية وتشعره بروح العدل وكرامة المواطنة هي من يستحق جهودنا الخيرة فهل من مدكر؟!