لعل من أهم ممهدات الحوار المفقود والرد المكتوب في بداية هذا الحوار غير المنجز ولا المدعو له المنتدى الوطني للديمقراطية أن نتساءل:
هل تأسست الدولة عندنا أصلاً، وهل مازال لمؤسساتها من وجود وهل مسها طائف من الطغيان والاستبداد والفساد والتخلف وغياب التنمية؟!.
أو هي باسطة للعدالة ناشرة للحرية صاعدة في أوجه البنيان ومظاهر التنمية المستدامة في ظل حكامة عادلة في التوزيع، وحرية في المبادرة وتكافؤا في فرص العمل والاستثمار والصحة والتعليم وحماية القيم والموارد وتوزيع الخدمات؟!
ومن الذي يتحمل مسؤولية ما هو حاصل بالدرجة الأولى والثانية إن كان عدالة وحرية وتنمية؟!، أو طغيانا واستبدادا وتخلفاً وتهديدا للشرائح والمكونات المجتمعية عرقيا وثقافيا واقتصاديا؟!
والأمر يتطلب ابتداء أن نبرز حدود ومدلول المفاهيم والمصطلحات الأساسية المكونة للحوار والنقاش هنا ونعني: الدولة، الطغيان، الاستبداد، الفشل، التنمية :
لقد ورد الطغيان في القرآن الكريم بمعنى الفساد قال تعالى:{ الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد} .
وقال:{ اذهبا إلى فرعون انه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} .
فالطغيان هو:"الحالة السياسية المعينة، التي تصبح فيها جميع السلطات بيد شخص واحد، يمارسها حسب مشيئته"، فهل هذا هو الحاصل عندنا كما وكيفاً ؟.
والفساد في لسان العرب هو في (فسد) ضد صَلُحَ (والفساد) لغة البطلان، فيقال فسد الشيء أي بطُلَ واضمحل، ويأتي التعبير على معانٍ عدة بحسب موقعه. فهو"الجدب أو القحط" كما في قوله تعالى:
{ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} (سورة الروم الآية41).
أو"الطغيان والتجبر" كما في قوله تعالى:{ للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً} (سورة القصص الآية83)
الاستبداد لغة: هو"غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة، فهل هذا هو واقعنا كذلك.
أو كما يقول المفكر اليساري حسن حنفي هو" الحكم الذي لا توجد بينه وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون, ولا عبرة فيه بيمين أو عهد أو دين أو تقوى أو حق وشرف أو عدالة ومقتضيات المصلحة العامة؟!.
فالاستبداد إذن هو: صفة لحكومة مطلقة العنان, تتصرف كما تشاء, وهو ضد الحرية ويسد أبواب المشاركة في إدارة شؤون الحياة ؟. فما موقع تبديد الموارد وبيع الممتلكات العامة: المدارس والمساحات والأملاك العامة من كل ذلك؟!
وقال الفيروز آبادي في"القاموس المحيط":"فَسَد كعَصَرَ، والفساد: أخذ المال ظلماً، والمفسدة ضد المصلحة، وتفاسد القوم يعني تقاطعوا الأرحام، ترى أين نحن من هذا ؟!.
ومن الواضح أن الفساد جاء في اللغة مقابلاً للصلاح، وأنه يفيد الخروج عن الاعتدال، فهو التطرف حقيقة، وأن المفسدة ضد المصلحة .
أما في الاصطلاح فهناك اتجاهات متعددة لتعريفه إلا أنها تتفق في كون الفساد يتضمن إساءة استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العامة للكسب الخاص!!.
ومن تعارفه أنه:"استخدام النفوذ العام لتحقيق أرباح أو منافع خاصة.أو أنه سوء استخدام الموقع العام (الوظيفة العامة) من قبل مسؤول للحصول على مصلحة خاصة لنفسه أو لعائلته أو مجموعته أو حزبه؟!.
وتعرّف منظمة الشفافية الدولية الفساد بأنه"استغلال السلطة من أجل المنفعة الخاصة"؟.
وتجدر الإشارة إلى تنوع مظاهر الفساد بشكل عام وتفرعه ضمن مجالات شملت مختلف مظاهر النشاط الإنساني، ومن هذه المجالات الفساد السياسي وتتمثل مظاهره بالحكم الشمولي الاستبدادي وفقدان الحرية، وغياب المشاركة، وانتشار المحسوبية والفساد المالي والفساد الأخلاقي والفساد الإداري وضياع القيم والأخلاق المجتمعية.
وفقهاء السياسة المعاصرون يعرفون الدولة الاستبدادية بأنها: الدولة التي يهدر فيها مبدأ المشروعيّة وتشبع نهم طبقة حاكمة متغطرسة باغيّة، فهل هي المولاة أو المعارضة؟.
ويوضح ذلك الحقوقي القانوني هيثم مناع بقوله: مواصفات دولة الاستبداد بأنها حيث تتسم" بتأميم السلطة التنفيذية للفضاء ين العام والخاص والسلطات التشريعية والقضائية والرابعة، واعتبار المال العام مزرعة خاصة لبطانة الحاكم، ورفض فكرة وحقوق المواطنة، وربط الدفاع عن حقوق الناس بالخارج والمؤامرة، والتعامل الأمني في كل القضايا السياسية والمدنية، وفرض سياسات اقتصادية واجتماعية من فوق يتخللها مكارم للحكام من وقت لآخر لا تغني عن فقر ولا تستجيب لحاجات التنمية،-أباتيك أمل ، وسيارات السمك ربما ؟-.
تجهيل المجتمع، اختزال مفهوم السيادة في طمأنة القوى الكبرى بأن مصالحها ومطالبها في قمة أجندة قمة السلطة"- مكافحة الإرهاب والهجرة السرية والمخدرات؟.
أما الرئيس الحقوقي منصف المرزوقي فيبين إن الدولة الاستبدادية تنطلق من مسلمات أساسية أهمها أن" الإنسان لا عقلاني وان الطاعة والقوة هما الركائز الأساسية للنظام ومصدر الشرعية هو الحاكم المستبد والناس ليسوا سوى رعايا والحقوق منة من الدولة" ولذلك يرتفع منسوب الظلم والعنف الاجتماعي ويتضخم نفوذ الأمن وينعدم التداول السلمي للسلطة وتصادر الحريات وتكون المؤسسات التمثيلية زائفة وهدفها هو خدمة الطبقة الحاكمة, وتكون فعالية المؤسسات عموما محدودة لان الولاء هو ما يتم اعتماده عند التوظيف وليس الكفاءة؟.
أبرز علامات الدولة فاشلة:
1- الركود والترهل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، والتفاوت الكبير في توزيع الدخل وضمور الخدمات، وعجز المسئولين.
2- وجود فئة طفيلية فاسدة قليلة تستحوذ على معظم الثروة من أراضٍ وعقارات وأموال، مع الجاه والنفوذ، وتتحالف مع السلطة السياسية التي تحول البلاد إلى مزارع خاصة بأفراد الحاشية، بينما تعاني الغالبية من الحرمان والفقر فضلاً عن غياب مشاركتها السياسية, وهكذا مع تعمق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، تغيب الحريات، وينهار التعليم ويتدني وضع حقوق الإنسان وتنعدم الروح الإبداعية الخلاقة وتنهار القيم الأصيلة لصالح قيم الانحطاط وتتدهور التنمية وتنكمش.
3- إن الحرية والتنمية مفهومان متصلان ومترابطان والتاريخ والواقع يثبتان إن التجارب التي يجري فيها الفصل بين الحرية والتنمية تنتهي بالفشل فهذان المفهومان يرسخان بعضهما البعض, إن غياب الحرية والرقابة والمشاركة الشعبية سيؤدي حتما إلى غياب العدالة وحكم القانون وهو الأمر الذي سيقود إلى تعزيز الإدارة السيئة والفساد واليأس والاحباط ممهدات ضياع الأمن والاستقرار.
4- الشخصانية والارتجال والتفرد والاستئثار من قبل الجماعة المتحكمة والمالكة للقرار السياسي, وتطغى على النظام نزعة المركزية الشديدة وتبهت سلطة القانون ونظم الرقابة والمساءلة وتتحول الفئة الطاغية المستبِدة إلى هيئة فوق القانون وفوق الدستور ولا تسمح حتى بتوجيه النقد لها, وتلجأ لتثبيت سيطرتها إلى وسائل الاحتواء والترغيب والترهيب وتقاسم المكاسب والإقصاء والتهميش والقمع حسب الحالة التي تواجهها.
5- الطغيان والاستبداد السياسي إذن هو: حرمان فئات من المجتمع (فئات اجتماعية- وتيارات سياسية:أحزاب تمنع من الترخيص وهيئات تغلق، وتشكيلات ومنظمات تحظر، وبرامج توقف- جمعية المستقبل-صحراء توك- في الصميم) من عملية المشاركة السياسية وتهميش دورها في عملية صناعة القرار أحد أهم الروافد التي تصنع وتغذى الكثير من المشكلات التي يعانيها المجتمع والمبررات حاضرة شماعات: العمالة والخيانة والإرهاب وتهديد الوحدة الوطنية؟!.
6- غياب الحرية وحق المبادرة واستبداد النظام السياسي, (سلطات الوصاية) بحيث يتملك السلطة والنفوذ والمال ووسائل الإنتاج وسلطة القانون والسلطات التنفيذية والتشريعية والقوة الأمنية والعسكرية فهو يحوز جميع مصادر القوة في المجتمع.
وفي ظل هذه الأجواء تغيب الشفافية والمحاسبة, ويزدهر الفساد بكل أشكاله وتنشأ عن ذلك ثقافة جديدة تقوم على النفعية والانتهازية والواسطة وعدم تكافؤ الفرص وغياب الإخلاص.
وهذه الأجواء التي يخلقها الاستبداد والفساد تتكاملان معا لتطيح بمقومات الوجود الإنساني: العدالة والحرية عوامل التنمية في المجتمع وروح الفاعلية و المبادرة والإنتاج والعطاء.
7- إن"نظام الظلم والاستبدادي يصنع له أنصارا وأعواناً من الفاشلين الفاسدين الذين يعبدون الدنيا بكل ترفها. فيتخلون عن كل معاني الشرف والقيم الأخلاقية، ولا يهمهم سوى الحصول على الأموال التي تمكنهم من أن يمتعوا أنفسهم، وأن يحصلوا على كل أنواع اللذة والامتياز.
وهؤلاء الفاسدون المترفون هم أهم أعوان المستبدين في كل العصور والظروف، فهم يعيشون لأنفسهم ويتكبرون على شعوبهم ويسخرون من المناضلين والشرفاء في وطنهم ويحتقرون الذين يتمسكون بالقيم والأخلاق ويضحون من أجل الوطن .****
8- إن أنظمة الاستبداد لا تهدر إمكانيات البلد المادية إسرافا وبدارا وتعيق الوصول إلى الأهداف المفترضة فحسب، بل أنها تطيح بالعقل الفعال في المجتمع والأفرادوتشله وتحول الناس إلى آلات حديدية مطوعة بلا مشاعر ولا خيال مبدع ولا قدرة على التصور والتخطيط والمبادرة، فالعلاقة المباشرة بين الفساد والاستبداد تتمثل في"أن الفساد عندما يستشري ويترسخ فإنه يعمل على حماية نفسه، وذلك بإبقاء كل الهياكل التي أنتجته على حالها، فلا تغيير في القوانين ولا تعديل في اللوائح ولا تطوير في السياسات، لذلك نجد أن المسئولين الحكوميين غير مبالين بالتغيير ولا بالإضافة والتجديد، ولا بالعلاقة مع الجمهور وذلك ضمانا لاستمرار المناخ الذي يضمن لهم المزيد من التربح واستغلال النفوذ.
9- ولا الاستبداد يحتكر السلطة ويستخدم الوسائل المختلفة لإدامة نفسه من التجهيل إلى التفريق، إلى الظلم والجور إلى استخدام الأعوان من المخبرين الكذابين الجاهلين الفاشلين، وفتح السجون وتعذيب البشر وسحق الإرادة وخنق الحرية وإشاعة الانحلال والفجور والتلهي بتوافه الحياة حتى يظل المواطن مغترباً عن ذاته، مستباحا في شرفه وكرامته ومعرضاً للبيع ولمختلف المخاطر" فهو على الهامش تشغله لقمة العيش، لا يجد مخرجا سوى الخضوع ، يبرر الظلم الواقع عليه بل ويقاتل دون ذكره يجتر هزائمه الخاصة والعامة وهو مغلوب على أمره، عاجز عن التغيير أو تحدي قوى الاستبداد".
10- وتنتج ثقافة الظلم والاستبداد أنمطاً تطابق طبيعتها، وتحقيق مصالحها الفئوية الخاصة، وعلى حساب المصالح العامة دائماً ، وتلك هي الثقافة الاستبدادية تظل تحدث انشقاقاً كبيراً في المجتمع(محظوظين ومحرومين: اجتماعيا واقتصاديا وثقافياً) وتؤسس وتكرس حالة الفساد، وتحول ساحة المجتمع إلى ساحة حرب بين مختلف الأفكار والاتجاهات، حائلة دون وجود إمكانية تعايش وتفاهم يضمن حالة من التكافل والتعاون، وإنما يخلق عقلية ما يسمى(الجُزُر المنعزلة) حيث لا تهتم كثيراً بخلق عمل جماعي ناجح، ولا تعبأ أساساً بالمصالح العامة، وإنما كل اهتماماتها تتجه في اتجاه واحد هو:المصلحة الفردية .
11- وفي نظام الفساد وفلسفة الاستبداد تتحكم مظاهر الرشوة والمحسوبية والجهوية والقبلية والعرقية الظواهر التي تشكل أبرز المخاطر على سلامة الجسم الاجتماعي، وذلك لأنّها تؤجّجُ الشعور بالظلم والقهر الحاصل، وتُنهك الفئات الفقيرة ومتوسّطي الحال، وتجعلُ حقوق المُواطن كالشغل والسفر والاستشفاء والسكن والصحة والتعليم، والكهرباء والماء قابلة للبيع والشراء، وتفتحُ الأبواب أمام الانتهازيين الذين لا همّ لهم سوى الإثراء على حساب غيرهم من المُستحقّين، ويُداسُ على سائر قيم التراحم والتضامن والتعاون،فتشيع ثقافة:"الكلب أل ما اسلك أولا اخل أل يسلك"فتصبح أعمال البر والتعاون: عملاً مشبوهاً وخدمة للإرهاب؟! وتُنتهكُ أبسطُ حقوق الإنسان، ويسودُ قانونُ الغاب، وتزدهرُ نزعاتُ الانتهازية والوصولية والابتزاز والطمع والجشع، وتتغذّى الأنانيّةُ المُفرطةُ عند الكثيرين إلى درجة إلغاء الآخر؟.
ولقد كان عبد الرحمن الكواكبي دقيقاً في كتابه"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، حين قال:"الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها, والاستبداد يسلب الراحة الفكرية فتمرض العقول ويختل الشعور, واقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس انه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة النفاق والرياء"ونظرية المنعكس الشرطي حاضرة فاعلة.
سألت مرة أحد الليبيين المختصين عن أسباب قلة المعروف والبر والصدقة في المجتمع المسلم الليبي، فقال لي إن من أسباب ذلك أن فلسفة النظام تقوم على أن ذلك يعتبر استغلالاً من الإنسان لأخيه الإنسان، ومظهر من مظاهر الحزبية والتحزب ومن تحزب فقد خان؟!
وللمستبد خصائص وصفات أبرزها: العلو والكبر والاستخفاف والجبروت والعناد والفسق .
وله أجهزة ومناهج وأدوات من أبرزها: أجهزة المخابرات المختلفة والمخبرين المتهافتين المبثوثين في كل الأرجاء, كما تضم الأعوان(المدنيين الفاشلين في الحياة)الذين يتم استدعاؤهم لإثارة الفزع في صفوف الجماهير(لَمْعَيًطْ، والنائحة).
ففي ظل الحكم الفاسد تصبح مؤسسة الأمن من أهم دعائم نسق الحكم الفاسد، فهي عماد مؤسسة القهر التي تضم أيضا: أجهزة المخابرات المختلفة والمخبرين المبثوثين في كل زوايا المجتمع وأرجاء الوطن, كما تضم الأعوان(المدنيين)الذين يتم استدعاؤهم لإثارة الفزع في صفوف الجماهير أو ما يمكن تسميتهم(الكلاب البشرية المسعورة سماسرة الرعب ومخالب الظلم لأنظمة الفساد والاستبداد)إن صورة دولة المخابرات كما يقول فقهاء الحقوق تجسد حالة مخلوق ضخم يقوم على القوة والعنف والاستبداد، ويستمد أسباب استمراره من الخوف والتخويف وليس من الشرعية".
ثانيا:أجهزة الإعلام: وبالطبع فإن الجهاز القمعي يسانده جهاز إعلامي(الوكالة والاذاعة والتلفزة، والهابا)، هو في حقيقته أداة النظام الرئيسية للتعبئة، والشحن العاطفي ضد المعارضين ويقوم بتزييف الوعي وإفساده إن أمكن.
والتعمية على المواطنين والكذب المتواصل على طريقة (هامان) أو جوبلز( وزير الإعلام النازي ): اكذب ثم اكذب ثم اكذب وكلما كانت الكذبة اكبر كان التصديق لها أكثر، وعلى طريقة وزرائنا في تبرير ارتفاع الأسعار وعدم علاقات ذلك بسعر المحروقات السائلة !!.
وفي مفهوم مؤسسات إعلام الظلم والاستبداد: (الصرح) أو (الهابا) تصبح القضايا التي يتم طرحها تكون وبما يتفق وتوجهات نظر الحكم والنخبة والحكومة، والقضايا التي يتم حجبها، وتجاهلها تكون مما لا يحسن فتح ملفاتها.
أما ممارسة حرية الرأي والتعبير، فإذا لم تكن في حدود"الأدب أو بعبارة أخرى "الخطوط الحمراء"مثلاً: جمعية المستقبل للدعوة والتعليم-صحراء توك أو برنامج في الصميم) فإن المصير يتراوح بين التعليق أو الإغلاق أو الطرد أو الفصل أو الحرمان من الممارسة أو النقل الإداري وصولاً إلى السجن والتعذيب بأنواعه المختلفة .
ثالثاً: مثقفو وفقهاء السلطة المستبدة :ومثقف السلطة أو فقيهها هو احد الأدوات الرئيسية للاستبداد وهو من أعمدة ثقافة الفساد فهذا "النظام" الفاسد يحيط نفسه بطبقة من فقهاء وكتاب البلاط, وهي طبقة عازلة تُنَظِر لبقاء هذا النظام، طبقة مكوّنه من أنصاف وأرباع المتعلمين والمثقفين يكتبون المقالات في تمجيد النظام، و تفتح لهم الصحف والشاشات أبوابها دون تحفظ لإلقاء الخطب والتصريحات وممارسة طقوس الطاعة وطقوس الولاء بشكل يومي .وهم قادرون على تحويل الهزائم إلى انتصارات والإخفاقات والمخازي إلى مؤامرات والشرف والفضيلة إلى تطرف وإرهاب وتزمت، وتخريب وعمالة, وهم يمتلكون وجوها عديدة ومتنوعة لكل مناسبة.
و فقيه ومثقف الاستبداد همه الأول منح النظام السياسي الشرعية مقابل أن ينعم بالعطاءات المادية والترقيات و المناصب الرفيعة، وهو الذي يمتلك القدرة على تزييف الحقائق، ويخفي أهداف المستبد الذاتية، ويحولها إلى أهداف سامية باسم الدين والشعب والأمة والوطن، مستخدمًا كل المخزون الفكري والمفاهيم الأخلاقية لدى الناس ليلصقها بسلوك المستبِد فيصبح هذا المستبد قائدا ملهما فاضلا لا غنى للجماهير والأوطان عنه.
وهذا الفقيه والمثقف لا يكف عن الشهيق والنهيق والهتاف، فهو يسترزق من هتافه، ويتحول بالتدريج إلى مستبد صغير، فيتوالد الاستبداد ويعيد إنتاج شروط الاستبداد من جديد نفسه، فيصبح استبدادا دينيًّا واستبدادًا ثقافيا واستبداد اجتماعيا واقتصاديا ….
وهؤلاء الفقهاء المثقفون هم المسؤولون عن فساد العقل لأنهم حولوا العقل من وظيفته النقدية إلى أداة تبريرية للأنظمة العاجزة ومروجين بارعين للشعارات التي يسوقونها ليل نهار.
من وسائل وأساليب الاستبداد للاستمرار: تجهيل المجتمع وتفريغ التعليم من محتواه: فهناك عملية أخذ وعطاء غير مرئية تجري بين الأمة الجاهلة والحاكم المستبد"كما تكونوا يول عليكم" و"الطيور على أشكالها تقع"" كله خلوه يقبظ صاحب".
فإذا قلنا أن المستبد يأتي من رحم الأمة الجاهلة فإن الأمة الجاهلة على دين ملوكها (الرعية على قلب الأمير-حكّامها المستبدين) فتصبح السياسة عزل وإقصاء، والأحزاب مكرمة وتضليل ومخابرات، ووسائل لتغييب الوعي عبر تشجيع ثقافة الخنوع والتنظير للهزيمة الداخلية والعجز والتواكل, ومنع الثقافة التي تعلم الإنسان سبل الحياة الواقعية، من الحقوق الفردية والوظائف الجماعية وحدود الحاكم، أو التي ترفع من منسوب الوعي لديه ليبقى سائرا في الظلام لا يستطيع الفكاك من عبودية الجهل والتخلف والاستبداد.
وفي سبيل ذلك تستخدم أساليب عديدة منها علماء السوء الذين يتلبسون بزي علماء الدين ليحصل بواسطتهم على الشرعية الدينية ، باعتباره ولي الأمر، والخروج عنه فتنة وإفساد في الأرض كبير والأخذ على يده ضياع للبلاد والعباد فهوالدمار والخراب، فتحول مؤسسات التعليم إلى مختبرات ذات رسالة دنيوية مصلحية ذاتية تائهة بعيدة عن الهم العام وعن إثارة التفكير النقدي العقلاني بل الحفظ والتلقين والترديد ما لا يعمر دنيا ولا يضمن أخرى فتتخرج الأجيال وكل ما يعرفونه هو التسبيح بحمد الحاكم المستبد يخشون من كل جديد ويناهضون كل تقدم.
"إن هدف الرسالة التعليمية في الدولة الاستبدادية هو" إبعاد العقل عن طرح المشكلات التي يواجهها المجتمع, واستبدالها بمشكلات جانبية تخدم هدف التفكيك للحمة الاجتماعية" .
و"هناك مقولة تؤكّد أنه إذا فسد القضاء وفسد التعليم في أمّة من الأمم تخّلفت هذه الأمة، وشوّه هذا الفساد معظم علاقات المجتمع الإنساني لأنها تقوم على الظلم والاستبداد والجهل، وعُدّت هذه الأمّة في عداد الدول المتخلّفة حضاريا ومعرفيا، وتلك هي الدولة الفاشلة ؟.
رابعاً: تغيب المراقبة والمحاسبة: في الدولة الاستبدادية كل شيء يجري على غير عادته، فالصفقات تعقد خلف الكواليس ما يعرف ب(التراضي)، والاتفاقات خارج حدود المراقبة(الاجراءات)، وليس هناك من يراقب أو يحاسب الانتهاكات والتجاوزات، حتى الدستور المكتوب لا يمكن أن يكون رادعاً للتعديات على القانون والمصادرة للحقوق والممتلكات حيث تغدو الدساتير بيد الحاكم يعدلها كيفما شاء ووسيلة ضغط على خصومه فقط وبهذا يكون الدستور والقانون والقضاء عوامل دعم وإسناد للمستبد في إحكام قبضته على المعارضة والسلطة على حد سواء.
خامساً: تكثير الأعوان والمنتفعين وإفساد الأمة وإلهاءها بالمغويات:"كاد الفقر أن يكون كفراً" عماد قوة المستبد جوقة الأعوان من المتزلفين والمتملقين والمطبلين الذين يستند عليهم الطاغي في ترويج بضاعته وتسويق سياسته الظالمة وأفعاله الفاسدة، وبدونهم لا يتمكن من تثبيت وجوده. والى هذا المعنى أشارت الآية الكريمة:{ إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين} [53] حيث وصفت فرعون وأعوانه بوصف واحد، فجاء مصيرهم واحدا أيضاً:{ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم}.
سادساً: التفريق بين أطياف المجتمع قال تعالى:{وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم}: (فرق تسد) من أبسط الوسائل التي استعملت قديماً ولا زالت في سبيل السيطرة على أزمة ومقاليد الأمور وخصوصا عندما تتشكل الأمة من اثنيات وطوائف متعددة.
فالأنظمة المستبدة تلجا إلى إثارة الفتن والأحقاد العرقية والطائفية والمناطقية والقبلية لتكون بالتالي أقوى من جميع خصومها المتفرقين وكما يوضح برهان غليون انه" لكي تستمر الدكتاتورية وتتمكن الفئة المتسلطة من الاستمرار في نهبها, لابد من إن تكون هناك إمكانية لتقسيم الشعب وتمزيقه وتوجيه كل فئة نحو الأخرى أي لا بد من تحطيم وعيهم الجمعي حيث إن غيابه سيعني انتفاء الخطر على الاستبداد".
سابعاً: الحصار والتهميش والقمع للأحرار: كل من لا يوالي الحاكم المستبد على استبداده وفساده ولا يشاركه في ارتكاب المظالم, محكوم عليه أن يقبع في معتقل الكلمة والرأي والعطالة والفقر, فإن تكلم وجد نصيبه من ممارسات الاستبداد ملاحقة وحصارا أو سجنا وتعذيبا أو نفيا وتشريدا, وكل من لا يتحول إلى بيدق من بيادق السلطة قمعا وقهرا أو فسادا ومحسوبية أو إعلاما موجها وفكرا منحرفا وأدبا تائها وفنا ضائعا، بعيدا عن قضايا الناس وحياة الناس ومشكلاتهم وآمالهم وآلامهم محكوم عليه أن يعيش وراء قضبان معتقل الفقر والبؤس ليفتح عينيه صباحا على كوابيس البحث عن لقمة الطعام لأهله ويغلق عينيه مساء على كوابيس الخشية مما قد يأتي به غد, وكل من يتجرأ على تجاوز حدود الكتابة أو الكلام في المشاكل اليومية الصغيرة والمسائل الجانبية التافهة فان عليه إن يبقى قابعا في الزوايا المهملة وعوامل التشويه والخيانة للدين والأمة والوطن.
ثامنا: الشروط اللازمة لتحقيق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية بنجاح هي: الشفافية والمساءلة والحكم الرشيد، وفعالية الحكومة وتمتعها بالكفاءة والخبرة الإدارية اللازمة، وأهمية هذه الشروط هي تحصين المجتمع من آفة الفساد، وما يقترن به من مظاهر الفوضى والتسيب واللامبالاة، وانعدام الحس بالمسؤولية.
فحين تكون القواعد الناظمة للحياة العامة قواعد موضوعية وعلنية، وتكون قرارات الحكومية رشيدة من حيث خياراتها ومركزاتها ومبرراتها ودوافعها، وكان المسئولون كل في مجال عمله على مستوى السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية يخضعون للرقابة الوقائية واللاحقة ,فإن عجلة التنمية ستندفع للأمام وستنكمش حالات الفساد وهدر الموارد،وهو الأمر يقتضي إقامة نظام سياسي يقوم على مبدأ التعددية السياسية المستند إلى الانتخابات العامة العلنية والنزيهة، وأن يرتكز هذا النظام على الفصل بين السلطات الثلاث، وان يتضمن احترام ممارسة المواطنين لحقوقهم المدنية والسياسية، وعلى رأسها حرية التعبير، وبذلك يتم تصويب السياسات التي تتسبب في هدر الموارد, و حصر ثروات المسئولين ومعرفة مصدرها من قبل الأجهزة الرقابية التي يُفترض أن تتحقق من صحتها أثناء وبعد تولي المسؤولية العامة.
و إعطاء صلاحيات واسعة لجهاز رقابي واحد، يتمتع بالاستقلال في مراقبة السلطات الثلاث، وأن يُعِد هذا الجهاز تقارير دورية تكون في متناول المواطنين وأعضاء المجالس التشريعية والقيادات الحزبية ومؤسسات المجتمع المدني كافة.
والتوعية السياسية بإشاعة مناخ ثقافي ناقد يحترم الرأي والرأي الآخر، يمكن له أن يحد من الانخراط في الممارسات الفاسدة، ولا بد من توفير الحرية لوسائل الإعلام،ودون وصاية أو رقابة من السلطة، وإعلاء القيم المجتمعية من نزاهة وإيثار وتضحية ونكران للذات، والتمسك بالخصال الحميدة والتي كانت متأصلة في المجتمع من أمانة وحس بالمسؤولية الفردية والجماعية. وضرب المثل الأعلى والقدوة الحسنة من قبل القادة من مسئولي الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني.
تاسعا: نتساءل :ما مصير التنمية والتقدم والازدهار في ظل نظام الظلم والاستبداد وكيف يتفجر الإبداع في براثين الظلم والعبودية وكيف سيتحقق الانجاز والبناء وكل الشعب صامت صمت القبور يخشى من كل شيء ويشك في كل ما حوله والجميع يردد المثل القائل:( إذا ضرب الإمام خاف المؤذن)(إلين ما تراو النار جمر الكبده).