أصبح الطريق الآن سالكا إلى داكار بعد مهرجان تكتل القوى الديمقراطية أمس الأربعاء في ساحة بن عباس بالعاصمة الموريتانية نواكشوط.
وها نحن عدنا إلى نقطة الصفر في مسألة الحوار السياسي المزمع بين السلطة والمعارضة.
لكن دعوني أعبر لكم عن الصورة التي ارتسمت في ذهني للمشهد السياسي الحالي في موريتانيا، ولا أريد أن أطيل، لكني سوف احتاج الى الوضوح، وعنوان المقال يشي بنية كاتبه في الإطالة.
أظن باختصار شديد أننا أصبحنا أمام خارطة سياسية ثلاثية الأبعاد : ولد عبد العزيز، وأحمد ولد داداه، والبقية.
خارطة هندسية ثلاثية الأبعاد، ثلاثية الأضلاع، ثلاثية الأقطاب، وهي خارطة الطريق الوحيد إلى الحوار.
لو كنت أعرف فحوى القاء الذي جمع بين ولد داداه في مكتبه مع السفير الفرنسي بيومين قبل المهرجان، لكانت الصورة التي ارتسمت في ذهني حول خارطة الطريق إلى الحوار أكثر وضوحا.
لو أن علم الهندسة أعطانا مثلثا قائما ومتساوي الأضلاع لكان هو، لكننا لم نجده، وإذا افترضنا أن ولد داداه هو قاعدة المثلث، وساوينا بينه مع الضلع القائم وهو ولد عبد العزيز لفرض علينا قانون بيتاغور أن نترك لـ "البقية" نصيبا أكبر من حجمها الراهن، في الحوار السياسي المزمع بين السلطة والمعارضة.
إذا أردنا الآن أن نجلس على طاولة المفاوضات، فعلينا تصميم قاعة جديدة للاجتماعات، وإعادة ترتيب المقاعد وفق هندسة جديدة تفرض نصيبا أكبر لهذا القطب "الجديد"، قطب ولد داداه الذي كنا نظنه انتهى قبل المهرجان، وكنا رتبنا القاعة على أساس الخطين المتقابلين المتوازيين المتقاربين اللذين لا يلتقيان أبدا، وإذا التقيا "فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
خطان هما خط المعارضة، وخط السلطة.
كنا عولنا على المنتدى ومن معه في جانب، مقابل ولد عبد العزيز ومن معه في الجهة الأخرى، وأخرجنا ولد داداه من اللعبة، وغسلنا أيدينا من "التكتل" ومن غيره.
ولد عبد العزيز يريد أن يجر ولد داداه بأي ثمن إلى الطاولة، ولا يرغب في المنتدى إلا إذا جاءوه بولد داداه. ولد عبد العزيز غير مغفل في السياسة، ولن يدفع أوقية واحدة ألا أذا أتوه برأس ولد داده.
ولد داداه ظاهرة سياسية نادرة وغريبة، فيها مفارقة عجيبة كنت قد حاولت التعبير عنها مرة بالتشبيه والمقارنة.
قلت إنه "شجرة في الصحراء يقيل المسافرون تحت ظلها أيام القيظ، يزاحمون في الظل من جاء قبلهم، وحين يأتي الشتاء ينكشفون عنه ويبقى وحيدا".
;
الشجرة في الصحراء تفقد زينتها ورونقها عندما يكثر الناس عندها، ولا تستعيد جاذبيتها إلا إذا انكشفوا عنها.
والقيمة السياسية لحزب التكتل في المعارضة ترتفع دائما إلى أعلى مستوياتها في الأوقات العصيبة والانسحابات الكبيرة، وتهبط القيمة أيام الرخاء والانضمامات الكبيرة، في مفارقة عكسية لا تخضع للمنطق القائل بالشخصيات الوازنة والناخبين الكبار.
جميع الذين مارسوا السياسة في موريتانيا قالوا يوما تحت ظل شجرة التكتل أو يومين ثم انصرفوا، منهم من غرس أشجارا أخرى خاصة به وحدائق، لكن ولد داداه ظل معلما ثابتا من معالم السياسة، معلما كبيرا في صحراء المعارضة القاحلة.
الحوار عندنا يعني "المحاصصة"، يعني تقاسم السلطة والمنافع المتعلقة بها كالحقائب الوزارية والمقاعد في البرلمان، ولا مكان في الحوار لمشاريع التنمية، لا مكان للتعليم والصحة والإسكان ..
وعندما يبدأ التدافع والتجاذب للكراسي بين أهل السياسة فإنهم يدوسون بأرجلهم مشاريع التنمية والسلم الاجتماعي.
الخارطة الآن بعد المهرجان أصبحت ثلاثية الأبعاد، ويفرض ولد داداه لنفسه حصة وحده، ولن يقبل التنازل عن جزء من نصيبه لأحد، وسيفهم ذلك اعل ولد محمد فال، ويذهب لشأنه قبل أن يقول له التكتل بلسان فصيح "انصرفوا عنا أيها الأصدقاء ودعونا تبقى وحدنا قليلا يرحمكم الله".
سمعت أحد المعلقين على المهرجان يقول إن الحوار ألقى بظلاله على المهرجان، وكنت أعتقد قبله أن الحوار يلقي بظلاله على المشهد السياسي برمته منذ فترة طويلة، وكان النظام يدرك ذلك جيدا، فمجرد الحديث عن الحوار يجعل السلطة في وضع أفضل.
الحوار غيمة تحجب حرارة الشمس الحارقة ولا تحمل أمطارا بالضرورة، فتلك البرودة في الصحراء تكفي وحدها لنمو الأعشاب، والحديث عن الحوار يجعل الناس يخففون من لهجتم ضد النظام، وتتراجع الحركات النضالية، ويكون الخطاب أقل حدة، وتنمو الزهور بسرعة في حدائق السلطان.
والآن بعد أن حدد ولد داداه حصته بنفسه، أصبحت الأمور واضحة ولم يعد الحديث عن الحوار وحده كافيا لبقاء الأمور على حالها.
وهنلك صورة أخرى للمشهد السياسي أقل تعقيدا، وهي صورة ثنائية الأبعاد، ولا تظهر في المدى القريب.
إذا جلس النظام مع "البقية" المحاورة الجاهزة مباشرة على الطاولة، وتجاهلوا ولد داده وتركوه لشأنه، وشكلوا حكومة توافقية ونظموا انتخابات برلمانية وبلدية سابقة لأوانها، عندها سيبقى الباب مفتوحا أمام ولد عبد العزيز وولد داداه وحدهما للتشاور في أمور الرئاسة والدستور برعاية فرنسية، أو يحدث احتقان، وتسوء الأمور بينهما وذلك طريق آخر سالك إلى داكار.
ولد عبد العزيز لديه ما يقدمه لولد داداه على طاولة التفاوض، لديه الحق في تعجيل الانتخابات الرئاسية، ليشارك مسعود وولد داداه، ولكن لا ندري هل يسمح الدستور الحالي لولد عبد العزيز بالترشح باعتباره لم يكمل ولايته الثانية، أم أن عليه الانتظار خارج السلطة حتى يعود.
ولا أظن الحديث عن تغيير الدستور حديث جاد لأنه ببساطة غير وارد، فتجارب الرفض في إفريقيا كثيرة.
قلنا في البداية أن الأطراف أصبحوا ثلاثة، ولم نذكر إلا طرفا واجدا هو ولد داداه.
قطب ولد العبد العزيز أو السلطة يضم الجيش أو إن شئت قلنا "العسكر" والزبناء من رجال الأعمال والمهلوسون مع الرئيس بالولاء أو بالوراثة.
لا نقول عن هذا القطب أكثر من هذا، فالناس يعرفونه.
أما "البقية" وهو القطب الثالث الذي يذكرني بقطب المطالبين بعودة الرئيس المدني أيام داكار، فيضم الإسلاميين وهي القوة الأبرز والأقدر على المناورة والحشد، لكن الضربات التي تلقاها التيار في الخارج قلمت أظافره وجعلته أكثر واقعية، لا يطلبون الآن أكثر من أن يكونوا من أهل ألنصح، نصح السلطان. والقوة الثانية هي حزب ولد بدر الدين أو إن شئت قلنا الكادحين أو ولد مولود فهذه قوة متماسكة قادرة هي الأخرى على المناورة لكنها غير قادرة على الحشد.
ولم أذكر بيرام، ولا مسعود، ولا صار إبراهيما، ولا بيجل، ولا صالح ولد حننه، لأنهم الآن أصبحوا خارج المشهد.
وأظن الذي "هَندز" كل هذا هو أحمد ولد داداه، ولا أظنه كان يتوقع أن يصل إلى هذه النتيجة بهذه السرعة، وبهذه السهولة.
المهندز لغة هو الذي يقدر المجاري والأبنية، وصيروا زايه سينا لأنه ليس في كلامهم زاي بعد دال.
كان مهرجان تكتل القوى الديمقراطية أو سمه إن شئت حزب ولد داداه، عملا سياسيا رائعا بامتياز، وأحسبه من تلك الأمور التي تنجح من تلقاء نفسها. شيء كالذي حدث لألمانيا أمام البرازيل في كأس العالم، كانت الكرة تدخل في مرمي البرازيل من تلقاء نفسها. أو كأغنية المعلومة التي روجوا بها للمهرجان، كانت كلماتها وألحانها تطرب النفوس هكذا من تلقاء نفسها، ولا نعرف كيف، ولا لماذا.
كنا نظن أن القوى السياسية الأقدر على الحشد في موريتانيا هي الحركة الإسلامية، وكنا نظنهم الأقدر أيضا على المقاطعة.
سمعنا أنهم عبئوا ضد المهرجان. وعلمنا أيضا أن الناصريين أو بعضهم نظموا حفلا تأبينيا لهيكل بالتزامن مع المهرجان، وهذا يفهم منه عدم المناصرة، كما أن الحراك الجديد "ماني شاري كازوال" تمسك بنشاطه الأسبوعي وبيوم الأربعاء.
وقد صادف أيضا هذا الأربعاء احتضان فندق الخيمة لندوة المعهد العالمي لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل إن الحكومة أمرت بتوزيع مواد غذائية بالتزامن مع المهرجان.
ورغم كل هذا حدث شيء ما جعل الحشد أعلى وأقوى من التوقعات، ولم يتجرأ أحد من المعلقين على تحديد عدد الحضور.
عدد أربك المنظمين، وشوش على خطاب الحزب. المنظمون كادوا يطيرون من الفرح، وطارت الخطابات من رؤوسهم، فجاءت كلماتهم متطايرة ومرتبكة.
يبدو أنهم اعتمدوا - قبل المهرجان - خطة دفاعية، فحجزوا المقاعد الأمامية للمنضمين الجدد للرد على الانسحابات الأخيرة، كالذي يريد أن يقول لمن معه "لا تذهبوا عنا، ابقوا معنا، فالناس تأتينا "، وفتحوا الباب أيضا لأصحاب المظالم وهم كثر، لكن أصحاب المظالم – وأنا منهم – لا يرغبون في طرح قضاياهم في مهرجان لحزب معارض رافض للحوار، يخافون من التصنيف. يخافون أن يعاقبهم السلطان بظلم أكبر من الذي جاءوا من أجله إلى المهرجان.
الأحداث تلاحقت بسرعة، وعرف المنظمون والقادة أنهم لم يكونوا بحاجة لكل هذا، فقد أفرزت لهم الساحة وضعا جديدا لم يستعدوا له - فيما يبدو - بما فيه الكفاية.
فطن ولد لمات للأمر، ولم يصعد إلى المنصة، وبقي في الساحة لمساعدة الشباب على التأقلم مع الوضع الجديد، فالانتقال السريع في السياسة من وضع المنهزم المدافع إلى وضع المنتصر المهاجم، يحتاج إلى حكمة وتبصر.
أعاد المهرجان إلى الحزب هيبته وثقته في نفسه والآن، والآن فقط، أصبح الحزب جاهزا للتعبير عن مواقفه بقوة، وأصبحت كلماته توزن بالأطنان.
لم يتطرق أحد من المتدخلين من الساسة لمسألة الحوار، فموقف الحزب من الحوار قبل المهرجان كان مرهونا بعدم الجاهزية.
ولد داداه كان ينتظر ذهاب جميع المهرولين إلى الحوار وإلى السلطة ليراهم يحترقوا بالنار التي اكتوى هو بحرها يوم دعمه المعلن للانقلاب، وكان يومها قد أساء تقدير الموقف.
أما اليوم، فلا أظنه يحتاج إلى مغازلة النظام عبر قناة الحوار ولا غيرها، لكنني أيضا لا أظنه يرضى بالظهور بمظهر الرافض له في العلن المحب له في الخفاء.
المغفلون في السياسة يصدقون قصة "الممهدات" التي كان التكتل يبني عليها رفضه للحوار، وتلك لا تعدو كونها مبررات للرفض الناتج عن حسابات أخرى وترتيبات للبيت الداخلي. منها أن الحزب كان بحاجة إلى عملية صقل.
هكذا برهن التكتل لنفسه أنه أصبح قطبا سياسيا منفردا ومستقلا عن غيره من قوى المعارضة، وهو الآن أقدر على المناورة لأنه على الأقل صار ضلعا ثالثا للصورة التي رسمناها في حوار دكار حين كانت هكذا : أحمد ولد داداه، ولد عبد العزيز، والبقية .