يَخْطُرُ ببالي دائما أن الله الذي جعل الجبال في الأرض رواسي كي لا تميد بمن عليها، جعل من عباده كذلك ـ ولو إلى حين ـ رواسي في بعض مناطقها أن تميد..
وكنتُ كلما رأيت الشيخ موسى ولد محمد ولد باب ولد الشيخ سيدي رحمة الله عليه، أو تأملت سمته ودَلَّه، أو سمعت شيئا من فعاله تهيأ لي أنه راسية جعلها الله في أرضنا..
وُلِدَ الشيخ موسى حوالي سنة 1923 فأدرك سنة من عمر جده الشيخ سيدي بَابَ، وأزيد قليلا من عمر والده (سنتان أو ثلاث)، لكنه أدرك كل مجدهم وعلمهم وتربيتهم، فتراث الشيخ سيدي باب، هو كما وصفه الأديب العالم سيد محمد ولد الكَصري في رثائه له:
صَدْرَايَتْ رَكْسْ أَهْلْ الْحَاجَاتْ ـ ـ أَلْ كَانْ أَنْغَرْسَتْ مَا تَنْسَلْ
كَـــالُو عَـنْهَا طَاحَتْ وُوُفَــاتْ ـ ـ غِــيرْ أَحْمَدْتْ الْعَالِ لَكْمَلْ
مَا طَاحَتْ صَــدْرَايَ خَــلَّاتْ ـ ـ أَجْـــدَرْهَ وُورَكْـــهَ وَظَّــلْ
تولى تأديب الشيخ موسى وإخوته مُرابط حَسَنِي صالح، كان تتلمذ على جده، وصحب والده، وأقام في خيمتهم، وعليه درس القرآن ومختصرات الفقه والعربية دون أن يرتحل، كما أخذ العلم عن بعض تلامذة جده، وعن عمه العلامة القاضي السُّني الورع الشيخ اسماعيل ولد الشيخ سيدي باب، ثم أخذته الفتوة إلى عصر الأشراف..
في بداية الخمسنيات من القرن العشرين، عند تأسيس الرئيس العام الشيخ عبدُ الله ولد باب ولد الشيخ سيدي لمعهد بتلميت الشهير انتدب الشيخ موسى للعمل فيه، فاختار محلا وسطا في مَرْجعِ بئر بتلميت الثالث عند ملتقى منحدر علب لَحْواشْ بوهد بتلميت حيث أقيم جامع لَحْوَاشْ الحديث، فأقام واستقام ولزم المكان لا يغادره إلا لأمر ضروري حتى كان محطته الأخيرة قبل البعلاتية..
أشرف على إدارة المحظرة العلمية النموذجية الخيرية التي أسسها الشيخ سليمان ولد باب ولد الشيخ سيدي بداية الثمانينيات من القرن العشرين واستمرت سنوات..
المتحدث عن الشيخ موسى لا يعرف يبدأ بما ذا؟ بالإستقامة أو العبادة أو الإيمان والصبر، أو الزهد والتواضع، أو منافع المسلمين والسعي في مصالحهم وإصلاح ذات بينهم..
فِي الإستقامة كانت حياة الشيخ موسى كأنها تجسيد عملي لها، فلم يغادر منهجا واحدا، وسمتا محددا، ومكانا معروفا، وكان عمره المبارك كيوم: يهجع فيه من الليل قليلا، ويقوم على رأس الثلث الأخير فينشغل بالصلاة والذكر، ويؤم المصلين في الفجر بجامع لَحْوَاشْ ويجلس في مصلاه حتى يصلي الضحى، ويرجع إلى "لَمْبَارْ" فيوزع بنفسه لبن حلائبه إبلًا وبقرًا على المصرفين، لتبدأ جلسة الشاي مع الأبناء والأحفاد والأصحاب، ومن يأتي من غيرهم، وقد يذهب بعد ذلك في حاجات الناس إلى الجهات المختلفة، على أن يؤم المصلين في الظهر في الجامع، وقد يصلي العصر ولا يبرح المسجد حتى يصلي العشاء، حيث موعد توزيع حليب الليل..
استقام الشيخ موسى على هذا البرنامج عقودا من الزمن، ولم يكن يغادر مكانه إلا في حاجات الناس جمعا لِدِيَّاتٍ، أو سعيا لتسوية منازعات..
في العبادة كان الشيخ موسى رحمة الله عليه صواما قواما، أخذت الصلاة ـ عماد الدين ـ منه عناية وجهدا خاصين، يحسن القراءة فيها ويطيل ركوعها وسجودها، فكانت صلاته معروفة بالطول والحسن..
أذكر أني لما درست نُقْلَةَ جده الشيخ سيدي باب في كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، لم أجد لها من تطبيق عملي مثل صلاته في جامع لَحْوَاشْ..
وكان يقول إنه لا يزيد على الحرص على الإتيان بالقراءة على الوجه الصحيح، وعلى الطمأنينة في كل ركن، وهو أمر يختلف في تقديره الأشخاص، وأنه ربما يهم بالرفع من الركوع مثلا فيسمع وقع أقدام شخص يدخل المسجد فيمكث حتى يمكنه من إدراك الركعة..
في آخر صلاة صليتها خلفه ـ وقد جاوز التسعين ـ شاهدت كيف يجهد نفسه في أن يجلس في الوسطى مفترشا قدمه اليسرى ناصبا اليُمْنَى وأصابعها إلى القِبلة، وهذه الهيئة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع هي أول ما يتركه الناس في هذه البلاد عند التقدم في السن تحولا إلى جلسات يرونها أرفق بهم..
تُوفي للشيخ موسى في حياته ولَدَانِ وبنت في عز الشباب وذروة العطاء والمجد، وكذلك والدتهم، فاستقبل قضاء الله بإيمان قوي وصبر وتسليم، وكان المعزون يأتون إليه فيندهشون من تجلده وصبره، ونقلت عنه في ذلك أقوال مؤثرة..
عاش الشيخ موسى حياته في حائط مفتوح بشكل دائم، تداعبه رمال علب لَحْوَاشْ، ليس به ـ إلى ما قبل سنوات قليلة ـ غير "أَمْبَارْ" وغرفة واحدة مسقوفة بالزنك، إذ لا تشغل مظاهر الحياة الدنيا شيئا من تفكيره، فكان مثالا في الزهد والتواضع، يذهب مع كل من يدعوه، لا يرد يد داع أبدا، ويختار في بعض الأحيان أن يذهب على قدميه لحضور مجامع الناس ومناسباتهم..
غَرَزَ الله في الشيخ موسى حب السعي في مصالح المسلمين ومنافعهم، فسخَّر نفسه لذلك فكان دائما سائرا مع هذا في مشكلته، ومع أولئك لتسوية نزاعهم..
سألت مرة أحد الزملاء القضاة، يعمل رئيسا لمحكمة مقاطعة بتلميت عن حاله مع قضايا المدينة فرد علي بعد حمد لله بأن كثيرا من النزاعات التي ترفع إليه تنتهي بالصلح إثر تدخل الشيخ موسى..
كان الشيخ موسى دبلوماسيا تقليديا من الدرجة الأولى، وله أساليبه الخاصة المهذبة في ذلك، مما سهل له تسوية كثير من المنازعات الفردية والجماعية ليس في بتلميت وحدها، بل في اترارزة ولبراكنه ومناطق أخرى..
كان له اهتمام عجيب بأمور الناس العامة، لا يشغله عن ذلك مرض ولا غيره، فقبل أكثر من سنتين زرته، وكان يُوعك وعكا شديدا، وقد خفت في نفسي على صحته كثيرا، ومع ذلك كان حريصا على أن يسألني عن قضية تشغل الرأي العام المحلي وقتها، واهتم كثيرا بجمع المعلومات حولها..
حضرتُ كثيرا من مجالس الشيخ موسى في بيته، وفي أماكن أخرى، حيث يقربني، ويحيطني بعناية خاصة، فكانت مجالسه دائما مليئة بالإفادات العلمية والفقهية والتاريخية، بعيدة عن الخوض في أعراض الناس..
برحيل الشيخ موسى تَنْتَقِضُ راسية من رواسي الله في أرضه، ويفقد المسلمون بقطرنا والدا عمت منافعه كثيرا منهم، ولكن في الخليفة والعقب وبقية البيت الصالح عزاء وملاذ..
وقد عمل ليوم رحيله، واستعد له، وما عند الله خير له، أسأل الله أن يغفر له ويرحمه، وأن يجازيه بأحسن الجزاء، ويبارك في عقبه، وخليفته، ويعينهم على مواصلة نهجه الذي عاش عليه ولقيَّ الله عليه..
هذا، وقد تراخت هذه الكلمات البسيطة القليلة في حق خاتمة الفُتيان أبناء محمد بن بَابَ، عن مُختاروقتها، وإن لم تتجاوز "الضروري"، لِمَا أجد من حُمَّى نواكشوط التي استقبلتني بحفاوة، ولا تزال تعركني..