يرى كثير من المثقفين في بلادنا أن فلسفة التثبيط وسياسة القعود مع الخالفين اللتين ينتهجهما الشعوبيون ، وأعداء الأمة العربية في كل المناسبات ، ينبغي أن يتم التصدى لهما بحزم وقوة ، بعيدا عن روح الاستكانة والخضوع والخنوع ، رغم أنهم يدركون جيدا خطورة الهجمة الشرسة التي تتعرض لها الأمة
العربية من طرف أعدائها الحاقدين الذين تكالبوا عليها من الشرق والغرب ومن كل فج ، وبدأوا في الإستغلال الخبيث لأفكار" صموئيل هنتنغتون " المتشائمة حول صراع الحضارات ، وتنفيذ إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط التي بشر بها المستشرق اليهودي " برنارد لويس" في مشروعه "الشرق الأوسط الكبير" الذي يعد أخطر وثيقة أقرها الكونغرس الأمريكي سنة 1983 ، حيث نجم عنها ما بات يعرف اصطلاحا ، ب " الفوضى الخلاقة " ، بغية تفتيت الشرق الأوسط إلى أكثر من ثلاثين دويلة اثنية ومذهبية ، من أجل أن تتسنى فرصة حقيقية لفدرالية تقودها إسرائيل ، باعتبارها الدولة المركزية الوحيدة التي ستحكم المنطقة ، وتلعب دور " كلب الحراسة " وتسعى لتحقيق حلم : " إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات " ، بعد ما تضعف دول الجوار .
ومع ذلك فإن الأمة العربية التي تمتلك روح المقاومة وتحتل موقع القلب من الجغرافيا العالمية ، ويقف وراءها تراث العروبة والإسلام ، لايمكن القضاء عليها ولا تدجينها مهما بلغت شراسة الأعداء ، وذلك استنادا إلى سيرة هذه الأمة التي تنهض باستمرار بعد كل كبوة خطيرة ، وتنتصرعلى أعدائها في نهاية المطاف ، مثل مايحصل عادة في تاريخ بعض الأمم الحية التي تستعيد ألقها بعد المحن ، خصوصا أنهم يقولون : " انه كلما تفاقمت مواجهة اعداء الشعوب للشعوب كلما أبدعت الشعوب " .
من هنا فإن خشية بعض الموريتانيين من الدخول في الخطوب العربية من خلال عقد قمة عربية في بلادنا ، قد يوصف بأنه تحلي بالاستكانة إلى أبعد حد ، وتخلي عن الدفاع عن الأمة التي تركب موريتانيا معها نفس السفينة ، مع أن من يبالغ في الخصوصيات والذاتيات ، والانخراط في التعاطي مع الإطار القطري الضيق الذي ارتضاه الاستعمار أصلا ، ويضع البلاد في الإطارالمنعزل ، يكرس دون شك آثارا رجعية ، خصوصا أن شعار الوحدة التي تتخطى الذاتيات صار في كثير من الحالات ممارسة تقدمية فعلية ، كما ان الانتماء العميق لأي بلد أو أمة لا يكون متجذرا إلا ذا ارتكز إلى وفاء أصيل ، وجهد مشهود وإلا كان تخلفا وجحودا ، لا يليق الركون إليهما ، سيما أن أمتنا العربية أمة كريمة ، ذات تاريخ مشرف قدمت خلاله للإنسانية مناقب جمة ومحامد كثير، فرغم جروحها العميقة وتكالب الأعداء عليها فقد ظلت إشارات التعاون قائمة بين الاقطار العربية ، وكانت موريتانيا حاضرة في ذلك المشهد ، لذلك لانبالغ إذا قلنا ان لأمة الإسلام وأهله علينا أكثر من : " ذمة ترعى وحرمة تصان" .
غير أننا لسنا واهمين ولا نتوقع من القمة العربية المزمعة صدور مواقف جيدة وحاسمة تجاه القضايا المصيرية ، وخصوصا في هذا الظرف بالذات ، نظرا لاحتلال بعض الدول العربية من طرف تحالف خبيث ، تقوده الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل ، مع ما تتعرض له بعض الدول في الجامعة العربية من التشرذم والفشل ، ومع ذلك فإن انعقاد القمة العربية في حد ذاته هو مكسب ، لأن " ما لا يدرك كله لا يترك بعضه " ، ولو من وجهة نظر أؤلئك الذين يعتقدون أن الأمة العربية ستتجاوز هذه المحنة ، باعتبار أنها مرت بمراحل أخطر منها بكثير ، فبعد احتلال بغداد من طرف المغول وما رافق ذلك من مآسي ، يكفي أن نتنبه إلى أن الاستعمار الغربي قد أحكم قبضته على الوطن العربي في بداية القرن الماضي ، وأن القمة العربية الأولى لجامعة الدول العربية سنة 1946 مثلا لم يحضر وقائعها إلا سبعة أعضاء فقط ، من أصل 22 عضوا ، لأن الدول العربية الأخرى في تلك الفترة بقيت ترزح تحت نير الاستعمار، إلا أن هذه الأقطار العربية قد واصلت المقاومة والنضال إلى أن حصلت على استقلالها ، وبذلك أصبح حال الامة العربية أفضل نسبيا ، إلى أن تكالبب عليها الأعداء من جديد في الوقت الحاضر .
أما بخصوص أؤلئك المشفقون على الوطن وأشقائه المطالبون بعدم استضافة القمة العربية في موريتانيا بسبب ضعف الامكانيات المادية والبنى التحتيىة ، فعليهم أن يتذكروا تلك القاعدة الذهبية ، التي تقول في هذا المجال : " لايمنعك من المعروف قلة ما في اليد " ، فنحن لا نروم مستحيلا إذا أسسنا على هذه القاعدة وقدمنا ما في وسعنا ، ولا نطلب ممتنعا إذا استقبلنا بحفاوة ضيوفنا وإخوتنا العرب وأصبحنا مثل بقية دول المعمورة التي تستضيف القمم باستمرار، ثم إن أشقاءنا العرب يعرفون إمكانياتنا جيدا لأنهم قد ساهموا في خلق ماهو موجود من كافة أنواع البنى التحتية في بلادنا ، بما في ذلك بناء المؤسستين الأمنية والعسكرية ، ويعلمون كذلك أن موريتانيا حين رحل عنها المستعر لم يترك فيها شوارع مبلطة ، ولا بنايات حديثة مجهزة بقاعات للمؤتمرات ، وان شنقيط قبل ذلك كانت بلاد سيبة وأهلها أهل بادية ـ لكنها بادية عالمة وتفخربذلك كله ـ وماهو موجود في موريتانيا الآن من العمران والإنشاءات قد تم تشييده بعد الاستقلال ، وبالتالي لن يكون مفاجئا للعرب إذا كانت مدينة انواكشوط ـ التي بنيت بعد الاستقلال ـ ليست كبيرة وتعلوها البنايات الشاهقة ، أو إذا تم استقبال بعض الضيوف في المنازل الفخمة الخاصة ، مع أنها قد تكون أكثر أمنا وسكينة .
وفضلا عن هذا كله فإن حاجة موريتانيا لهذه القمة قد تكون اكثر مما يتصور البعض ، ذلك أن موريتانيا ستقدم نفسها للعرب وللعالم كله ، كدولة فاعلة ومحورية لا يمكن الاستغناء عنها ، في زمن فشلت فيه دول المركز العربي ، وتم فيه تغييب العديد من العواصم العربية عن المشهد السياسي ، كما أن هوية موريتانيا العربية التي تأثرت كثيرا بفعل الاستعمار الفرنسي مما أدى ـ من بين أمور أخرى ـ إلى تأخرها عن الالتحاق بجامعة الدول العربية فترة طويلة ، سوف تتأكد أكثر، من خلال التعامل المباشرمع جميع قضايا الأمة ، وولوج دائرة التأثير والنفوذ ، والاستفادة باستمرار من دائرة التأثر والاستخدام ، ومع ذلك فإن الاستعداد الجيد لهذه القمة سوف يكون حافزا بالتأكيد للحكومة الموريتانية على أن تبذل ما في وسعها من أجل إنشاء وصيانة البنى التحتية اللازمة لنجاح وقائع القمة القادمة في بلادنا ، وفي نهاية المطاف ستبقى كل هذه الانجازات المادية موجودة على أرض الوطن لتستفيد منها البلاد إلى ما شاء الله .