في عهد التكتلات البشرية العالمية، لم يعد مَقبُولا ما نشاهده من تشتُّت و تَمزُّق في الجسم العربيّ، و تباعد في المواقف يصل- في بعض الأحيان- إلى حد التنافُر و التناقض، دون مراعاة للمصالح العليا للأمة العربية.
ولا بُدَّ، في هذا الإطار، من الإشارة إلى أنّ السياسة العربية بدأت في الآونة الأخيرة تَخطُو خطوات في الاتجاه الصحيح.
وذلك بعد أن تنبَّهَ السياسيون لضرورة تكاتُف الجهود ورصّ الصفوف لمواجهة الأخطار المحدقة بالأمة.
و من الإجراءات الإيجابية التي تستحق الذكر، في مجال توحيد المواقف العربية، ما يأتي:
أولا: اتفاق الدول العربية – تحت مظلة جامعة الدول العربية – على معالجة الوضع السياسيّ في اليمن، إثر الإطاحة بالنظام الشرعيّ في هذا البلد الشقيق.
و إذا كانت هذه المعالجة لم تكن ممكنة عن طريق الحوار و التفاهم بين الأطراف السياسية اليمنية-قبل تفاقُم الوضع- بدل اللجوء إلى التدخل العسكريّ ، فإننا مازلنا ننادي بضرورة العودة إلى الطريق الأمثل المتمثل في الحل السياسيّ.
و لعل ما ترتَّب على التدخل العسكريّ من آثار مؤلمة، يَجعلُ الأطرافَ اليمنية المتناحرة تقتنع بحتمية الدخول في مفاوضات تُفضي إلى تفاهُم يُخرِج اليمنيين من هذه المحنة القاسية المتجسِّدة في حرب لا تُبقي و لا تَذَر أتت على الأخضر و اليابس.
و مازال الأمل يَحدُونا في أن يكون الهدف من التدخل العسكريّ العربيّ في اليمن، هو الضغط على الأطراف المعنية لتقديم التنازلات الكفيلة بالوصول إلى حل سياسيّ تَوافُقيّ يُبعِد شبحَ هذه الحرب اللعين التي طال أمدُها. و لعلنا نتفق جميعًا على أن الحرب يجب أن تكون آخرَ الخيارات في العالم المتحضِّر (آخِر الدواء الكيّ).
وأشير إلى أنني كتبتُ مقالا من قبلُ بعنوان: اليمَن ومقولة "آخر العِلاج الكَيّ"، جاء فيه:
" واليوم، ونحن نتابع ما يجري في اليمن الشقيق، فإنني أرى أنّ التدخل العسكريّ-لإنقاذ ما يمكن إنقاذُه- يدخل في مجال: "الضرورات تُبيحُ المحظورات"، و "آخر العلاج الكيّ"، و "بعض الشر أهون من بعض".
بمعنى أنّ: ما يجري في اليمن – منذ فترة- بعد إرغام السلطات الشرعية في العاصمة (صنعاء) على الاستقالة، يُعَدُّ شَرًّا، والتدخل العسكريّ- بصفة عامة- يُعَدُّ شَرًّا هو الآخَر، ومن هنا وجب اللجوء إلى الأخذ بأخَف الضَّرَرَيْن (ولعله التدخل العسكريّ).
إنني من الذين يرفضون التدخل العسكريّ الأجنبيّ في الشؤون الداخلية لأيّ بلد، لكنني أيضا مع الذين يرفضون تغيير النظام السياسيّ القائم عن طريق حمل السلاح عليه، بل إنني أعدُّ ذلك شرًّا مستطيرًا.
وعندما تكون الدول العربية هي صاحبة المبادرة المتعلقة بالتدخل في شؤون دولة عربية- في إطار ميثاق جامعة الدول العربية والمواثيق ذات الصلة- فإنّ "الشرَّ" هنا كذلك يكون أخف من "الشر" المترتب على مبادرة أجنبية بالتدخل العسكريّ في الشؤون الداخلية للدول العربية. وهنا نعود إلى قاعدة "بعض الشر أهون من بعض".
ومن الملاحظ أن هذا التدخل العسكريّ في اليمن، لم يُفضِ حتى الآن – للأسف الشديد - إلى حل سياسيّ، مِمّا يقتضي مراجعة الخُطَّة/ أو الخُطَط المتعلقة بهذا الأمر.
لقد استبشرنا خيرًا-حِينَئِذٍ- باتخاذ قرار عربيّ لحل مشكلة عربية، بمباركة من جامعة الدول العربية، لكننا نرى أن هناك خللا مّا في الإجراءات المتخذة للتنفيذ، مِمَّا يجعلنا نتساءل عن الأسباب التي حالت دون تحقيق الهدف المنشود بالسرعة المناسبة.
إن المواطن العربيّ الذي يتألم وهو يُتابِع- على مدار الساعة- ما يتعرض له إخوتُه من قتل و تنكيل و تشريد، يحق له – من باب الشفافية – أن يحصل على بعض التفاصيل الخاصة بهذا الموضوع الخطير، و كما يقال: إن "الشيطان" يكمن في التفاصيل .
ثانيا: مِن الخطوات الإيجابية أيضًا التي تُذكَر فتُشكَر، ما حظيت به القضية الليبية من تشجيع عربيّ مستمر للإخوة الليبيين من أجل الوصول إلى تشكيل حكومة توافقية تتولَّى مقاليد الأمور في هذا البلد العربيّ المغاربيّ الذي يعيش ظروفا استثنائية تتسم بالانفلات الأمنيّ و الفوضى السياسية، بعد تدخل عسكريّ أجنبيّ مُدَمِّر خرَّبَ البلادَ وقتلَ النُّفوسَ-أفرادًا وجماعاتٍ-وترك البلدَ في وضْع لا يُحسَد عليه.
و يلاحظ هنا أيضا أن الإجراءات التي اتُّخِذت لإخراج ليبيا من محنتها، لم تأتـ بالنتائج المتوخاة بالسرعة المناسبة، بما في ذلك الجولات "الْمكُوكِيَّة" والجلسات الحوارية التي عُقدت بمدينة الصخيرات المغربية (على سبيل المثال).
وباستثناء المَوقفيْن المتعلقين باليمَن وليبيا، فما زال الموقف العربيّ من القضايا العربية الأخرى يتّسِم بشيء من التردُّد وعدم الوضوح...ونشير هنا-بصفة خاصة-إلى ضرورة اتخاذ موقف موحَّد وفاعِل، لمعالجة الأوضاع الخطيرة المتفاقمة في العراق و سورية و لبنان...
بخصوص لبنان، لابد من حل يضمن بقاء لبنان "الدولة" و يحول دون سقوط هذا البلد الشقيق المنهك، في حرب أهلية جديدة، قد لا يخرج منها سالما – لا قدر الله – كما حدث معه في الحرب الأهلية السابقة، مع مراعاة الطبيعة العَقدِيَّة و الحزبية والمذهبية، وواقع الفئات و "المليشيات" المتعايشة على الأرض اللبنانية، والنظر بعين الاعتبار إلى تشابك علاقات هذه الأطراف اللبنانية داخليا وخارجيا.
بالنسبة إلى سورية التي تشهَد حربًا مدمِّرة ضربت الرقم القياسيّ في القتل و التشريد و التدمير...، فلعلها تشكل أكبر تحدٍّ – من بين القضايا المذكورة – للعمل العربيّ المشترك.
ربما يعود الأمر في ذلك إلى تبايُن مواقف الدول العربية من النظام الحاكم في هذا البلد الشقيق، حيث نرى دولا تنطلق في نظرتها إلى الوضع السوريّ من مبدإ/ مبدأ عدم شرعية قيام معارضة مسلحة داخل البلد، أو التدخل العسكريّ الخارجيّ للإطاحة بنظام عربيّ قائم بصرف النظر عن شرعيته، ما دامت شرعية بعض الأنظمة العربية تتصف بشيء من النسبية، فقد يكون النظام شرعيا عند بعضهم و لا يكون كذلك عند آخرين، و قد يصل نظام إلى الحكم بطريقة غير شرعية ثم يصبح "شرعيا" بعد اتخاذ إجراءات معيَّنة لا كتساب الشرعية ، بصرف النظر عن مشروعية وصوله إلى السلطة.
و هناك دول عربية أخرى، ترى أن النظام الحاكم إذا طَغَى و تجبَّر و قتَلَ مواطنيه، وجَبَت إزاحتُه بكل الوسائل المتاحة، ولو كان ذلك عن طريق القوة.
ولا شك في أنّ الوضع في العراق يحتاج هو الآخر إلى وقفة تأمُّل، حيث القتل و التدمير و الانفجارات في تزايُد مستمر، وبوادر التقسيم تلوح في الأفق. ولا يختلف الوضع في هذا البلد الشقيق المثخن بالجِراح، عن الأوضاع في البلدان العربية المشار إليها، سواء أتعلق الأمر بالفئات العرقية أم بالطوائف المذهبية، أم بالتأثيرات الخارجية.
إننا أمام مشهد عربيّ مُعقَّد، تتصارع فيه أطراف متعددة مدفوعة بالبحث-بكل الوسائل المتاحة- عن مصالح داخلية وخارجية .
ولعل من الحكمة أن نعدَّ العُدةَ لمواجهة ما يفرضه هذا الوضع الحَرِج من تحديات تكاد تكون غير مسبوقة.
ولن يتأتّى ذلك إلّا بالقوة والحَزمِ.
إنّ قوتنا تكمن في وحدتنا. ومَن تَرَكَ الحَزْمَ ذَلَّ.
و الله ولي التوفيق.