في خضم الأزمة الراهنة، عاد الحديث بقوة عن المحاكمات، التي من الممكن أن تطال رموز المرحلة السابقة -المعاشة، باعتبارهم هم من أوصلوا موريتانيا لوضعيتها الحالية، والتي تنم عن وجود نهب منظم عاشته البلاد في العشرية المنصرمة، أو في سبع عجاف من تلك العشرية، سبع أتت على الأخضر
واليابس، وأنتجت واقعا مشوها، حيث تكابر الدولة في الإعلان عن مقدرات وقدرات هائلة، ويجد المواطن نفسه في حالة يرثى لها، ماديا ومعنويا بفعل غلاء المعيشة، وانتشار الجريمة والفقر، حد أن صارت الحالة كارثية وبائسة.
لقد خرج الرئيس أحمد/داداه في مهرجان حاشد، مهرجان حول الوفاء والصمود، وتكلم عن مقتضى الحال بعبارات يفهم منها الكثير، متعهدا لرئيس الجمهورية بعدم المتابعة إن تخلى طواعية عن السلطة، وبرغم القبول العام الذي حظي به مهرجان داداه، فإن المدونين والمثقفين والمهتمين بالسياسة والشارع استهجنوا بشدة قصة العفو المسبق، معتبرين قضايا الفساد التي تورط فيها أبطال السبع العجاف أكبر من أن يتم التغاضي عنها، ومطالبين داداه بالرجوع إلى الصواب الأمثل، الذي يجعل من محاكمة ناهبي المال العام فرصة نادرة للنجاة بالبلاد من أزمة سيولة خانقة، خاصة أن الأموال المنهوبة لم تبتعد، فهي هنا في البنايات والقصور والأسواق، والقطع الأرضية، وفي المؤسسات الخاصة، وهي في البنوك السويسرية والأوربية على اختلافها، ويمكن أن تعاد بجهود قانونية ليست مستحيلة، وعدم عودة تلك الأموال سيشكل صدمة للاقتصاد الوطني، قد لا تنتهي في الآماد المنظورة، بل قد تؤدي إلى صوملة موريتانيا، وإلى إضعافها إضعافا شاملا، سيؤدي حتما لغياب الدولة.
إن الجهود الراهنة المقام بها من أجل مكافحة الفساد وراءها طامة كبرى، وقد أكد الخبراء في الدولة العميقة، وفي الواقع المعشش في مفاصل الإدارة، أن محاربة الفساد المعلنة هدفها التغطية على أحداث السبع العجاف، على سنوات النهب المنظم، الذي طال كافة مناحي الاقتصاد الوطني، وامتدت الأيادي الآثمة فيه إلى صناديق الدولة الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، وأنهت مسار السيولة الوطنية، شاغلة الناس في برامج دعائية صوتية تتناول الإصلاح، والتنمية المستدامة، وفي الواقع ما حدث كان بعيدا جدا من الأهداف المعلنة، لقد سطا كل من مكانه على ما طالته يده، وحين ظهرت الأزمة الحالية لم يأمن منها إلى جانب رأس النظام إلا الجنرالات الكبار، الذين شاركوا النظام في المسرحيات الكبرى، ويلوحون للنظام بامتلاكهم المعلومات الصحيحة القادرة على توريطه، فيما يجلسون بأمان من العقوبة، مكرسين الإفلات من العقاب، الذي تحاربه الشرائع.
إن موريتانيا اليوم بحاجة ماسة إلى "محكمة جنائية دولية خاصة برموز السبع العجاف"، وهي محكمة ممكنة التحقق، فما على المهتمين والمدونين إلا الدعوة لهذه المحكمة، وحالما تحدث أول رجة سيجدون المجتمع الدولي قد لبى المطلب، والتعلل بالاستحالة غير وارد في الحالة.
إن نهب خزينة دولة كاملة يمكن تكييفه جريمة ضد الإنسانية، لأنه يعرض حياة الناس للخطر والمجهول، ويخضعهم لظروف قسرية، بل قد يسبب نوعا من الإبادة الناتجة عن الجوع والمرض، لأن الناس لا يجدون أقواتهم اليومية، وما حدث من نهب في موريتانيا يمكن أن يرقى لجرائم دولية، لا تقل عن الجرائم الناجمة عن الحرب والعدوان، وليس من الوارد أن يسامح الشعب الموريتاني جلاديه في الوضعية الراهنة، لأن المسامحة أحيانا لا تنم عن شهامة ونبل، بقدر ما تنم عن نذالة وخوف وجبن، وإلا لكان القرآن سامح اللصوص جميعا، لكن سبق في علمه تعالى أن حياة البشر لا تستقيم إلا بالعدل، وبإعطاء الحقوق لأصحابها.
إن العبث بمقدرات شعب كامل جريمة غير نبيلة وعير أخلاقية، وتستدعي من الضمير العالمي أن يتأهب ويصحو، وكذا الضمير الوطني، فلقد عادت بعض أموال مبارك المنهوبة إلى الشعب المصري، كما عادت بعض أموال بن علي إلى تونس، وبيعت سيارات وفلل وشقق الجماعة لمصالح شعوب لن تعود كما كانت، لأنها نهبت على الآخر إن صحت العبارة، ومن مجموعات لا ترعى في المواطنين إلا ولا ذمةـ لا ترعى القرابة ولا العهود والمواثيق الغليظة، ونحن على آثار القوم.
هل بظنكم سيكون أمين عام وزارة الداخلية كبش فداء يكفينا مؤونة ما حدث من نهب وسلب؟ .... الأمر أعظم من ذلك، فلا جماعة بير أم اغرين، ولا ماسينا، ولا ثلة أخرى قليلة ستكون كافية ليفيض النيل، بل علينا أن نشكر الجهود أيا كانت، وأن نطالب ونسعى إلى أن يحاكم كل ناهب للمال العام، حتى يكون عبرة للآخرين القادمين بعد أن فاتهم القطار، أما المسامحة فليست واردة أبدا، لأنها لا تستجيب لآهات الأرامل والثكالى والمرضى والفقراء والمعذبين، الذين تم الضحك عليهم من قبل الأبناء الطامعين العققة، الذين تركوا البلد حجرا على حجر.
نعفو في ماذا؟ ونسامح في ماذا؟ ... نسامح في جرائم السلب الصارخ الذي أفرغ وجودا كاملا من محتواه، ووضع حياة الناس في منزلقات الأوبئة والفقر والتردي في مهاوي الفساد الممنهج، الذي أغرق سفينة بلاد المليون شاعر في وحل سبع جنرالات بلا ضمائر، وبلا مشاعر اتجاه وطنهم وقضاياه، أكلوا الأخضر واليابس وصاروا يمررون أياديهم الآثمة على بطونهم في انتظار الوجبة القادمة، متناسين أن عدالة الرحمن بالمرصاد، وأن الضمير الذي لم يطيعوه في الدنيا هو البصر الحديد، الذي سيعاقبون يومئذ بمقتضى ما شهده من تجاوزات.
أيها المدونون الأحرار إلى جنائية نواكشوط .... وما ضاع حق وراءه مطالب.