"ظاهرهم ثياب و باطنهم ذئاب... إذا أصابك مكروه شمتوا بك و إذا أصابك خير حسدوك"
الشيخ محمذن اليدالي في كتاب (فرائض الفرائد من شرح العقائد)
بعيدا عن الذي ترمي إليه عبارة "دولة القانون" و تعنيه من مفهوم في الفكر القانوني الأوروبي القاري الذي استعارها من الأصل الألماني (Rechtsstaat) و ترجمها بـ"الدولة
القانونية"، "دولة القانون"، "دولة العدل"، أو "دولة للحقوق" قبل أن يتوسع نطاقها فيشمل كل قارات العالم؛
ثم بعيدا أيضا عن المعنى الذي يوحي بأنها "الدولة الدستورية " التي يتم فيها تقييد ممارسة السلطة الحكومية للقانون المرتبط في كثير من الأحيان بمفهوم الأنكلو أمريكي لسيادة القانون؛
و بعيدا كذلك عن ما هو معلوم من أنه في دولة القانون، تقتصر سلطة الدولة على حماية المواطنين من الممارسة التعسفية للسلطة و أنهم فيها يتمتع بالحريات المدنية قانونيا و التي يمكنهم استخدامها في المحاكم علما بأنه لا يمكن أن تكون بالبلد حرية ولا ديمقراطية من دون أن تكون في الواقع أولا دولة قانون؛
فهل من دور للشعوب في صياغة و بناء دولة القانون التي تضمن لأفرادها حمايتهم و صون حرياتهم و تنظيم مسار حياتهم و تحقيق رقيهم و ضمان بقائهم؟ و على أي أسس و بأية منطلقات يكون هذا الدور؟
و هل لتاريخ الشعوب و معتقداتها و مسطراتها التعاملية داخل كياناتها و في صميم عاداتها و تقاليدها و عقلياتها و فلسفاتها، دورا في قيام دولة القانون ثم ترسيخ قيمها؟ و كيف ذلك؟
و هل ساهم الشعب الموريتاني، الذي لم يكن من قبل "موريتانيا" حتى أختار له الاستعمار هذا الاسم، في نشأة الدولة المركزية و كيفما نشأت محتضنة كل تناقضاتها ـ بطريقة ما يصفها الكثيرون بالـ"مبتذلة" ـ ؟
و هل هو بضعف المرتكزات و البعد عن قيم الجمهورية إلا ذلك إجهاض ذلك المشروع الذي وضعه الاستعمار بعد دخوله و بمباركة و مشاركة البعض من أهله الذين آزروه ضد الممانعين و نصره ضد الذين حملوا مشعل المقاومة، المشروع الذي كلف "كبولاني Cappolani" ذات يوم بصياغته للدولة المركزية المرتقبة و التي تتمتع بمؤهلات الكيان المتماسك على أساس القانون و بدفع من المؤسسات الدستورية و الثوابت الجمهورية الفرنسية بهدف توقيع الطلاق النهائي مع الكيانات التي تحمل ألف إسم و إسم و تأخذ ألف شكل و شكل من "الإمارات" و "المشيخات" و "الكانتونات الاثنية" و "تجمعات آدوابة" المفهرسة؟
ولما كانت المُعضلة التي واجهت و ما تزال تفعل ـ المجتمع الموريتاني، المتعدد المكونات و الطبقات و الشرائح في طريق الانتقال إلى الديمقراطية التي يفرضها فرضا واقع العالم المتغير بسرعة ـ تنحصر في القضاء على مقومات الفوضى الشمولية وتأمين مصالح كل شرائح المجتمع ورؤيتها وضمان مستقبل كافة أوجه الحياة التي تحمل تلك التيارات "الماضوية" رؤية مغايرة لها ولاسيما ما يتعلق منها بمَدَنِية الدولة ونظامها السياسي واعتماد النظام الأمثل لشكل الحياة في مجتمعها، النظام الرئاسي؛ فإن الانشغال الذي كان يجب أن يكون حينها الأكبر و يتمحور حول من يُختار على أسس سامية ليتولى وضع وثيقة الدستور، قد تم على عجالة و عن طريقة النسخ و اللصق من دستور المستعمر دون مراعاة الظرف و الخصوصية و دون نظرة استشرافية عن بصيرة و دراية علما بأن الدولة تقوم على سيادة الدستور الوطني لتمارس القوة وتضمن السلامة والحقوق الدستورية لمواطنيها و تخلق من أفق الوعي و رحابته ـ المنقاة حينها من شوائب و رواسب التخلف الفكري المتحجر الذي يحمل كل بلاوي الإقطاعية و الرجعية و الظلامية حيث يقول الشيخ محمذن اليدالي في كتاب (فرائض الفرائد من شرح العقائد) واصفا بعض مظاهر تجلياتها من خلال طباع أهلها السائدة "ظاهرهم ثياب و باطنهم ذئاب... إذا أصابك مكروه شمتوا بك و إذا أصابك خير حسدوك".
ـ و تنظم المجتمع المدني شريكا مساويا للدولة، الأمر الذي ذهب فيه دستور جمهورية ليتوانيا إلى أبعد حد حيث وصف الأمة بأنها "تسعى للوصول إلى مجتمع مدني متفتح وعادل ومتناغم مع دولة في ظل سيادة القانون بعبارة أخرى الدولة القانونية.
و لما أن الاتحاد الأوروبي يترأس في وزارة العدل الوطنية ـ الواقعة ضمن بناية من آثاره القليلة التي تركها و لم تكن تؤوي يوما إلا شؤون العدالة ـ خلية تدعى بأحرف عريضة "دولة القانون" فإن ذلك:
ـ يعني و من دون لبس أننا بعيدون أولا عن أي مستوى من التفكير الحضاري يؤهلنا إلى التوجه إلى مثل هذا البناء المتمدن و الملامس جوهرا و عمليا لدولة القانون،
ـ و يكشف النقاب ثانيا عن أن هذا الشعب، الذي تطحنه عقليات مستبدة تكرس التهافت بالقوة إلى المال و التحكم، ما زال في هذه البلاد يتلمس السبل في دياجير اللا كيان إلى دولة القانون المشتهاة رغم مرور ستة و ستين عاما على استقلاله و قيام قرون غابرة بكل عنفوان عقلياتها المتحجرة في حاضر مرتبك آسن.