عودة "العلك".. أو رحلة في ذاكرة زمن أصيل / الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

 كم أنا ممتن لموقع "موريتانيا المعلومة" الذي أتحفنا بمقال جميل من إنتاج الوكالة الموريتانية للأنباء عنوانه "ازدهار حصاد الصمغ العربي.." لم نكن لنطلع عليه لو ظل مطمورا في معدنه الذي لم يعودنا - رغم إمكانياته المعتبرة- على استخراج الدرر النفيسة التي تفيض بها طبيعتنا الغنية وحياتنا 

الاجتماعية الزاخرة.
ولعل وعسى أن يكون هذا العمل فاتحة عهد من الإبداع يميط اللثام وينفض الغبار عن تراثنا، ويساهم في جلي وتصحيح المفاهيم و"الأسماء" التي تجتاحها سنن التلاشي والنسيان في خضم ثقافة الجفاف وجفاف الثقافة.
أوليست بشرى عظيمة لنا نحن أبناء منطقة اترارزة والعارفين بها، الذين ما نزال نَحِنُّ إلى زمن خصبها الجميل، زمن  ما قبل دورة الجفاف الأخيرة في آخر سنة من ستينيات القرن الماضي، ونحتفظ بذكريات طيبة من ذلك الزمن، أن نتلقى نبأ عودة العلك، ونرى صورا بهية تتلألأ فيها جواهره وفصوصه الذهبية والماسية التي تقر بها عين الرائي خاصة إذا كان "سفرادا" محترفا قديما:
"عاد العلك أو الصمغ العربي إلى الأسواق بعد صرم تطاول عهده حتى ظن الجميع أن لا تواصل بعده، ولكن العلك من شيمته الوفاء بالعهد، وأهل اترارزة ليس بإمكانهم نسيان فضله عليهم عبر العصور وفوائده المتعددة التي لا يمكن حصرها دواء ومصدرا لجمع المال ونشب الحياة".
إنها إذن لبداية عهد بيئي جديد، يبشر بتعافي الطبيعة والناس معا:
"عاكب ذا الِّ فات امن اهلاك ** لرض ألخلاك المنكوبه"
بيد أن هذا المقال يثير لواعج وأشجانا وذكريات لا تكمل فائدة دون الإشارة إلى بعضها في ملاحظات عابرة وهي:
1. أن العلك والبقر كانا ركيزتي الاقتصاد في "الگبله" وغيرها. وكان العلك يقوم مقام النقود "تقوّم به المتلفات وتشترى به المثمونات". (انظروا جيدة السبك) وكانت وحدة كَيْله المُدّ (الصاع) قبل مجيء الأوربيين ووضع الموازين. "وكان أيضا هو العملة الصعبة التي تستجلب بها المواد التي لا تنتج محليا كالقماش والمرايا والسكر والتبغ والشاي" (نفس المصدر آنف الذكر). ويأكله الناس، ويدخل في تركيب الكثير من الأدوية المحلية. 
2. أن للعلك مكانة شاسعة في التاريخ والسياسة والثقافة في موريتانيا؛ وهي تتجاوز بكثير ما ذكره المقال الجميل، ويستعصي إحصاؤها أو الإحاطة بها مهما تعددت وتوسعت المقالات المدبجة حولها. من ذلك مثلا أن بعض أعنف حروب الگبلة كحرب السلطان محمد لحبيب مع الإدارة الاستعمارية الفرنسية في اندر (سان لويس) كان من أسبابها وخلفياتها العلك، وكذلك جل صراعات الأوروبيين الهادفة إلى السيطرة على الشواطئ والمراسي والأسواق الموريتانية.
أما "أدب العلك" أو أثر العلك في الأدب والثقافة فحدث ولا حرج شعرا وملحونا ونثرا. ومن أروع وأخلد ما جاء في هذا الموضوع ذلك الجدل الذي أثاره قول الشيخين محنض بابه بن اعبيد وحبيب الله بن القاظي بطعامية العلك، وحرمة بيعه بالطعام نسيئة. ونقض فريق آخر من العلماء لهذا القول. ومنهم تلميذ الشيخ محنض باب الشيخ الحارث ولد محنض الذي جادل شيخه جدالا علميا ظريفا في مؤلف تكثر فيه - حسب ما روى لي الشاعر والباحث والمحدث أحمدو ولد عبد القادر الذي اطلع صحبة المستشرق الألماني "روتر" على نسخة خطية منه- عبارات مثل "غاب عن شيخنا" و "أولم يضع شيخنا في الحسبان".. وختمه بالقول: إن مثلي مع شيخي محنض بابه كمثل أرسطو مع شيخه أفلاطون حيث يقول: "أفلاطون صديق والحق صديق ولكن الحق آثر لدينا من أفلاطون". وقد أطرب جدال واستدلال هذا البدوي المستشرق الألماني فصاح من هوله قائلا: "يا له من بدوي يستشهد بأرسطو وأفلاطون!!".
وقد مضى عمل الناس على جواز بيع العلك بالطعام نسيئة، وهذا يقتضي اعتباره غير طعام.. إلا أن الشيخ التاه ولد يحظيه اعتبر هذا العمل من باب الضرورات التي تبيح المحظورات لا غير؛ فنطمه في سلك مع جملة من المسائل اضطر إليها الناس فقال:
أرى موقف الشرع الحنيف من البنك ** كتأجيل مطعوم يبدل بالعلك
وأجرة راع عندنا وتهايؤ ** وونگال والإحسان ينظم في سلك
مسائل عن ضر تعودها الورى ** وليس لها في الشرع شيء بلا شك.
وبعد قرون من الزمن جاء العلم لينصف الشيخين المتقدمين محنض بابه وحبيب الله ولد القاظي ويؤكد ما ذهب إليه التاه ولد يحظيه؛ حيث تم تصنيف العلك طعاما في فبراير 2007 ثم في السودان سنة 2008 وسُوِّق عالميا كطعام غني بـ "البريبايوتيك" الطبيعي عام 2008 وذلك رغم ما يحاك ضده من مؤامرات حتى لا ينافس الأطعمة الصناعية ويظل مضافا غذائيا رقمه E414 (انظروا "الصمغ العربي الإفريقي الطعام المنسي"   د. عصام صديق) فقد ثبت أن الصمغ العربي هو المنُّ الذي أنزل الله على بني إسرائيل فقلوه وعدلوا عنه إلى الحبوب. وبرهنت شركة "دار سافنا" التي سجلته كطعام في السودان وماليزيا ورأس الخيمة وقطر والكويت ونيوزيلاندا، وتتجه إلى تسجيله في مصر وبقية العالم، أن منتجاتها الجديدة "سويتفايبر" و"سافاست" والمكونة من خلط مسحوق الصمغ العربي وصمغ الطلح، بها أكبر نسبة من الألياف الغذائية الذائبة تعادل عبوتين من "سويتفايبر" الألياف الموجودة في خمس تفاحات، والكالسيوم بهما يعادل الكالسيوم الموجود في عشر تفاحات. وعليه فإن ثمرة الصمغ العربي أفضل من ثمرة التفاح من حيث القيمة الغذائية أو الجوهر، وأفضل من حليب البقر. وتعتبر غذاء استراتيجيا قبل أن تكون علاجا" أو مضافا غذائيا.
ترى أولا يحق لنا بعد ما كشفه العلم من طعامية العلك أن نصيح بالشيوخ محنض بابه وحبيب الله والتاه كما صاح المستشرق الألماني ونقول لهم: يا لكم من بداة سبقتم العلم قرونا!
3. أن المقال تغاضى - ربما عن غير قصد- عن كثير مما له علاقة حميمة بالعلك كمراتب وطرق جنيه الواردة في جيدة السبك، و"لمنابت"، و"سيرات"، و"بديلة"، و"الغار"، و"الرفقة"، والأوعية كـ"الظبية" و"المزود" و"ازكيبه"و"الترفاطت"، وكلمات افتتاح الجني: "الدك الدك أقلة الجك" و"بليتك باش امليتك"، و"وجه العلك". وفي أرقى أشكاله يقول مؤلف كتاب إخماد الثرثرة بالفوائد المبعثرة: "فمثلا الشمش (رئيس إدولحاج) قرر معهم سنة 1785م ما يلي: إذا جاء إدولحاج إلى إدارة الشركة في اندر فلهم  ضيافة يومية تتمثل في اثني عشر مدا من الحب وست علب من العسل الاصطناعي وقنينتا خل وشاة أو ما يعادلها من لحم البقر وسراجان وقَدْرٌ كافٍ من الحطب، وإذا رحلوا فلهم ثلاثون بَيْصَةً من الْمَيْلِسْ، وثلاثون طستا من النحاس أو قيمتها، وثلاثون مقصا وثلاثون مرآة وثلاثون حقة قرنفل وثلاثون موسى وثلاثون مشطا وثلاثون قفلا وثلاثون يدا من القراطيس وثلاثون قضيبا من الحديد طول كل واحد منها ثمانية أقدام.
وإذا رست السفينة فلهم عند وزن القنطار الأول من الصمغ – بعد إطلاق المدفع لتحيتهم وإعلان الموسم- عشرون بيصة من الميلس وخمس بنادق من فئة ذي الفمين وعشرون من فئة ذي الفم الواحد وخمس عشرة عمامة من الْمِلْف الأحمر وعشر بيصات بيض وعشرون قضيبا من الحديد وخمس حقق مَلاصْ".
(إخماد الثرثرة بالفوائد المبعثرة للشيخ محمد لكبير ابن محمد آسكر، ص 122)
ولعل الثغرة الوحيدة في المقال - في نظري- هي كونه درج على طريقة المتأخرين، دون بحث وتبين، فانتزع من المجتمع الذي يتحدث عنه مسمياته لأدواته التي ورثها صاغرا عن كابر، وحاول أن يلصق به مسميات أخرى يستخدمها آخرون، فقال متحدثا عن اترارزة: "وبدؤوا استخراجه كما كان آباؤهم يفعلون بذات الأدوات التي كان يستخرج بها من الأسلاف منذ أزيد من ستة قرون، ولكن مع اختلاف واضح في تسميتها، حيث أطلقوا على الأداة التي ينتزع بها من شجره (وخظة) بدلا من (السقدة) والسلة التي يجمع فيها (الملكاطة) بدل (سودو) والفزاع بدلا من البضال". فجميع المسميات التي ذكرها واعتبرها جديدة لا جديد فيها؛ وهي ما كنا نستخدمه مع "لعمود" الذي لا غنى عنه؛ والذي نتخذه من عروق الطلح مع بعض التثقيف، وكنا نتطاول فيه كما يتطاول أهل اليوم في البنيان.
يومها، وإن كان يوجد الاستعمار ودمار الحربين الكونيتين والجفاف والمجاعة والفقر المدقع والعبودية الظالمة، فإنه كان يوجد الإنسان والثقافة والعمل والتضامن الاجتماعي والطبيعة الوارفة (غابات أيروار/ القتاد، والطلح) الحنون وتباشير النهضة والانعتاق ولطف الله الذي شمل كل شيء.

 

13. مارس 2016 - 13:53

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا