السادة الرؤساء العرب :
دعوني أخاطبكم دون أية مجاملات قد تقتضيها مناصبكم السامية ..
سعدت كثيرا ـ بعد كل هذا العمر الذي تجاوز سن اليأس ـ بالتفاتتكم نحوى،
ونقلكم لقمتكم القادمة إلي، والحق أن لبعض أسلافكم دينا مستحقا علي، وأنا لا أنكر الجميل، ولا أنسي من أعانني وإن تناسيت ـ مروءة ـ من أعان علي، وهنا دعوني أترحم على رجال كانوا دائما إلى جانبي بقلوبهم، بأموالهم، بسلاحهم، بنخوتهم العربية الأصيلة، بمواقفهم الرائعة، صدام حسين، جمال عبد الناصر، الشيخ زايد بن سلطان ال نهيان، فيصل بن عبد العزيز ، وإخوته الذين خلفوه في الحكم، ياسر عرفات، الشيخ صباح السالم الصباح، معمر القذافي، الحسن الثاني، هوارى بومدين، ودعوني أنحنى إجلالا لذكرى أول رئيس عربي احتضن الكيان الموريتاني الناشئ وقتها، ودعمه بكل ما يملك ليقف على قدميه، أعنى الزعيم التونسي الخالد لحبيب بورقيبه.
وإن أخطاء بعض هؤلاء الراحلين في حق بلدى لا تغطى أبدا على ما قدموه له بسخاء، أيام كان يحتاجهم، وما السياسية إلا مد وجزر وتجاذبات، وتضارب في المواقف والمصالح والمطامح والأهواء، تكتب على سبورتها سطرا جميلا اليوم، لتطلسه غدا وهكذا.
السادة الرؤساء:
لن أعتذر لكم عن وضعيتي الحالية التي قد لا تناسبكم ، فانتم رؤساء عصر الفنادق والجسور والليالي الملاح، ولستم قادة الخيل والليل والقمر البدوي، ورائحة الشواء ولبن النوق، ولعصر "الفوتوشوب" ما يميز رجاله عن الرجال العرب الحقيقيين، الذين كانوا ـ ذات صهيل ـ يكتفون من الدنيا بسرج سابح، وورق كتاب، ونجعة في الوديان والوهاد، طلبا لكرامة، وإغاثة لملهوف، وتشبثا بعزة وراثية قعساء .
ولن أحاجج ببراءة أبنائي ـ باستثناء البررة من جيل التأسيس الخالد ـ من المسؤولية عن الحال الذي ستجدونني فيه وعليه، فقد انهالت علي التمويلات والهبات والمنح من مشارق الدنيا ومغاربها، وأنام على السمك والذهب والنحاس والنفط وغير ذلك من الخيرات الحسان، لكن أبنائي لم يحسنوا تدبير ذلك، فكبر العالم من حولي ولم تنفعني "عيشة" رأى بعضهم أنهم أحق بها منى، و لأنني أمهم التي تحبهم بجنون فأشهدكم أنه لا تثريب عليهم.
لن تروا جسورا ولا طرقا معلقة، ولا فنادق فخمة، ولا شبكات صرف صحي،ولا شيء من النعيم الذي تركه أغنياؤكم وراءهم، ستجدون أنفسكم في "بادية كبيرة" ليس لها ما تفخر به سوى شعب عربي إفريقي مضياف شجاع متعفف صبور وسباق للمكرمات.
قد ينقطع الكهرباء، وقد ينزل المطر فأغرقكم دموعا اعتبروها فرحا بمقدمكم، وليست ـ في الواقع ـ إلا غسيلا سنويا انشره لسكاني وضيوفي، ولكل العابرين، هو في حقيقته شهادة عار على أن أبنائي من جيل ما بعد 1978 لم يقيموا صرح عاصمة حقيقية، تساير عصر التطور الحالي، كما عليه الأمر في معظم عواصم بلدانكم الكبيرة
السادة الرؤساء:
دعوني أقولها ـ بمرارة و بصراحة أيضا ـ إن اختيار شهر يوليو لقمتكم هنا غير موفق إطلاقا، فهو شهر المطر، والبعوض، والحميات، والحرارة، والمستنقعات، وأنا أفتقر لبنى تحتية مناسبة لمواجهة كل تلك الظروف الصعبة التي يتحملها سكاني بشجاعة نادرة، أما أنتم فلا أتوقع أنكم تستطيعون صبر ساعة على ظروف بكل تلك القسوة مناخيا وصحيا ومعيشيا.
أنا أخاطبكم بصدق، فلست سياسية لأبنى لكم جسورا على أنهر لا أتوفر عليها، ولن أخدعكم، ولن أجاملكم، فهذه حقيقتي، ومن المهم أن تتعرفوا علي عن طريقي، وليس عبر صور أو معلومات منقحة و مزيدة ومعدلة وراثيا، فالرائد لا يكذب أهله، و يهمنى أن أجعلكم في الصورة حتى لا تنخدعوا، أو تنصدموا، أو تصابوا بإحباط من أي نوع، أريدكم أن تروني بالألوان الطبيعية، فنحن بدو بالفطرة، لا نحب التصنع والتكلف، وإظهار الأقنعة البراقة، بدل وجوهنا البسيطة، الطبيعية، المضمخة جمالا، لا تنال منه الفاقة، ولا يهزمه الظلم والتهميش والنسيان.
في الزمن العربي الجميل لم أكن بحاجة لقول كل هذا الكلام، فالعربي القح رئيسا أو مرؤوسا يمكن استقباله في خيمة بدوية، بشيء من التمر واللبن والشواء والموسيقى، وغالب قوت وعادات أهل البلد، في فضاء بدوي مفتوح، يحرسه القمر، لا الطائرات الأمريكية، ويعبق بالنسيم العليل العفوي الصافي، الذي لا تخالطه روائح المؤامرات والصفقات و المرابحات الدبلوماسية و "المجاملاتية" الدولية.
في ذلك الزمن كانت الصحراء العربية كلها عاصمة لكل عربي، لا فرق بين نواكشوط ودبي، ولا بين الدوحة ومقديشو.
اليوم تغير كل شيء، واحتاج العرب إلى يافطة ورقية متقعرة يسمونها "الجامعة العربية"، وهي في حقيقتها، اسم بلا مسمى، وجسم بلا روح، وعجل لا خوار له، ومتى كان العرب بحاجة ليافطة تجمعهم اليوم وقد جمعتهم ـ عبر الزمن ـ اللغة والتاريخ والجغرافيا والمصير المشترك.. ؟!!
ألا يكفى العرب أن صروف الدهر فرقتهم، لتتوق نفوسهم الأبية لوحدة حقيقية لا لغو فيها ولا تاثيم ..؟!!
السادة الرؤساء:
من عادتنا نحن البدو ـ المعجونون بالتقاليد العربية الإفريقية ذات اللحمة الإسلامية الجامعة ـ أن الرجل لا يدخل على المرأة بيتها، إلا إذا تأكد أنها جاهزة لاستقباله، معنى ذلك أنها محتشمة المظهر واللباس، مطمئنة في كامل صحوتها بدنيا ونفسيا وعقليا.
فالمرأة قد تكون في وضعية خاصة عندما تخلو بنفسها وحيدة، كأن تضع ثيابها من الظهيرة ، أو تعيد فتل ضفائرها.
عادة يقف الرجل العربي البدوي باحترام ووقار عند مدخل الخيمة، محدثا صوتا خفيفا "حنحنة" مثلا، أو "حمحمة" جواد إذا كان فارسا للتدليل على وصوله، لتأخذ المرأة الوقت الكافي للإصلاح من شأنها واستقباله، حتى لو كان زوجا، أو أخا أو حتى طفلا ، ومهما كانت مكانته وقرابته وصفته.
كنت أتوقع قبل قمتكم أن اسمع "حنحنة"، إذ لا سبيل في زمني هذا لسماع "حمحمة"، فهو زمن بلا فرسان، وبلا جياد أصيلة، لكي أتجمل وأتطيب والبس أحسن ما عندي، وأتحلى بأجمل الحلي ، لاستقبال أبناء العم، وأنا التي أفرح بهم ولهم فطريا، وأعلم أن جمالي من جمالهم و قبحي من قبحهم، أما أن تدخلوا علي الخيمة فجأة ـ وبدون استئذان قبل سنة على الأقل لأصلح من بعض شأني ـ فيعنى ذلك أن تتحملوا كل ما سترونه في ملامحي من شحوب وفاقة وفقر وبؤس، هي في النهاية مظاهر كان بمقدوركم ـ في كل الأوقات ـ مساعدتي على تجاوزها.
عليكم أن تتكيفوا مع المشهد، إذ لا عمارات مرتفعة، ولا طرق سيارة بين السماء والأرض، ولا مترو للأنفاق، ولا فنادق ولا مطارات، ولا نزل تليق بكم، وانتم القادمون ـ غالبا ـ من نعيم الحياة وزخرفها.
يحدثني قلبي أن كباركم لن يتجشموا عناء الرحلة نحوى، وأن غالبيتكم سترسل من ينوب عنها، كالوزراء، ووكلاء الوزارات، وبوابيها ونحو ذلك.
في كل الأحوال أنا أحبكم، واستعد لاستقبالكم، لست إلا بيتا من بيوتكم، فقرى من فقركم، شقائي من شقائكم، و بي بعض من ملامحكم، وستغضبون منى إذا رحبت بكم، إذ لا يرحب بالعربي في بيته عادة، وسأغضب من نفسي وعليها إذا قلت لكم إنني لست جاهزة ـ الآن على الأقل ـ لاستضافتكم، وعموما فلا شيئي يمنع مواعيد العشاق، وأصدق الحب أفقره .
تحملوا كل عباراتي، فلأنني أحبكم قسوت عليكم، ولعلها العتبى وليست القسوة، فقد حان أن تلتفتوا إلى فقرائكم، وبوابات وطنكم الواحد، وان تمدوها خيمة عربية واحدة، وتدها في عمان والآخر هنا على شاطئ المحيط الأطلسي، خيمة بها نلتقي على تمرنا ولبننا، وحبنا وخيلنا ، وسيفنا وثغاء شياهنا، وضوء قمرنا ،وصفاء رملنا ومائنا وأنغام ناينا وعودنا وطبلنا، خيمة منها تنعقد الألوية للزحف لتحرير الأرض والعرض والكرامة العربية، وطرد الدخلاء، خيمة تجعل الأرض فعلا "بتتكلم عربي"، وتمسح دموع ثكالى فلسطين، وأرامل العراق، ومشردات سوريا، ومكلومات اليمن.
والى أن نلتقي تحت الخيمة ـ وليس تحت يافطة الجامعة الوهمية ـ وفى غبار المعارك، وحمحمات خيول الفتح، وألوية النصر، وخنادق الفدائيين، لا فنادق العشرة نجوم، و أضواء المصورات، و أوراق البيانات البائسة "المسربة أصلا وفرعا" الفارغة شكلا ومضمونا لكم حبي و تقديري .
نواكشوط عاصمة الجمهورية الإسلامية الموريتانية