لم تعرف البشرية جمعاء ، دعوة إلى العدل كما عرفتها في الإسلام فقد دعا الحق سبحانه وتعالى المسلمين إليه وأمرهم بالتزامه والاحتكام إليه في كل أمر من أمورهم وفي كل شأن من شؤونهم بحيث يصبح المؤمن في كل أموره عدل إلله وقسطاسه المستقيم وتضحى العدالة أمرا ذاتيا فيه لا ينفك
عنه ولا يفارقه وهو أمر غير مستغرب من أتباع دين كان من أبرز السمات التي وسمت شريعته لتكون أعدل الشرائع اتصافا بالحق ونبوا عن الباطل والظلم ونفور من الكذب والغش ولزوما لجادة الصدق حيث جاء العدل على رأس القيم الإنسانية الست الكبرى التي تلخص الجانب الاجتماعي من رسالة الإسلام لبناء مجتمع كوني يسوده السلم الاجتماعي قال تعالى"إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون"
وقد شرح الإمام علي رضي الله عنه هذه القيم بقوله "العدل الإنصاف والإحسان التفضل فما بقي بعد هذا ؟! " . وإيتاء ذي القربى إي إعطاؤهم ما تدعو إليه الحاجة . وفي الآية إرشاد إلى صلة الأقارب والأرحام وترغيب في التصدق عليهم . وبعد أن ذكر الثلاثة التي أمر بها اتبعها بالثلاثة التي نهى عنها فقال : "وينهى عن الفحشاء " وهي الغلو ، والميل إلى القوة الشهوانية كالزنا وشرب الخمر والسرقة والطمع في أموال الناس . والمنكر وهو ما تنكره العقول من المساوئ الناشئة من الغصب كالقتل والضرب والتطاول على الناس ، والبغي وهو ظلم الناس والتعدي على حقوقهم ، "يعظكم لعلكم تذكرون" أي أمركم بثلاث ونهاكم عن ثلاث كي تتعظوا وتعملوا بما فيه رضاه سبحانه وتعالى ، وما فيه صلاحكم في دنياكم وآخرتكم .
(رواه الإمام البخاري في تاريخه).
لقد كان الرعيل الأول الذي تخرج من مدرسة النبوة الأولى نموذجا فريدا وجيلا رائدا في التزام الصدق ، والحكم بين الناس بالعدل ، فلم يستثنوا شريفا لشرفه أو قويا لقوته أو غنيا لثرائه أو نصيرا لولائه أو صداقته أو قرابته ، وإنما بلغ بهم الأمر إن كانوا في القضاء موازين قسط وأوعية عدل حازمين صارمين حتى عطروا تاريخ الحكم والقضاء بخالد الذكر وتالد الأثر، ولا غرو فقد رباهم صلى الله عليه وسلم على التحيز للمظلوم صدعا بالحق ومنابذة لأهل الجور والظلم ، فجعل أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر, ونعى حال الأمة التي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم ! وتوعد المسؤول الجائر سلطانا كان أو غيره من أصحاب المسؤوليات والأمانات بسوء العاقبة في الآخرة "من ولي أمة من أمتي قلت أو كثرت فلم يعدل فيهم إلا كبه الله على وجهه في النار" (رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد).
فالأمة التي تتشوف إلى أن تبني مستقبلها وترسخ كيانها ويستتب الأمن والاستقرار لربوعها ويتلاحم أبناؤها لابد أن تستقيم حياتها على الحق دون الباطل ، وعلى العدل دون الجور ، وعلى الشرع دون الهوى ، وعلى العقل والعلم دون الجهل والوهم ، وعلى حلية التجرد دون الممالأة والتحيز. وأوجب ما يجب أن يلتزم فيه ذلك هو ما يمس حياة الناس وحقوقهم وما يتصل بمصالحهم وتدبير شؤونهم ، والأمة التي لا يقدس فيها الحق ولا يحترم فيها الواجب ولا تستعلي فيها العدالة ولا ينتصف فيها للمظلوم من الظالم وللضعيف من القوي وللفقير المعدم من الغني الموسر هي أمة مهددة في وجودها وكيانها ، مهزوزة في نموها واستقرارها لمصادمتها نواميس الله في كونه وسننه في خلقه ، وهو المعنى الذي جلاه من محك تجربة وخبرة الواقع المتأتية من مكابدة هموم الرعية وتحمل مسؤولية الأمانة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد ولاة خلفائه الراشدين عـمير ابن سعد رضي الله عنه بقوله " ألا إن الإسلام حائط منيع وباب وثيق فحائط الإسلام العدل ، وبابه الحق ، فإذا نقض الحائط وحطم الباب استفتح الإسلام ، ولا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان ، وليست شدة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسوط ،ولكن قضاء بالحق وأخذ بالعدل . فالحكم بين الناس بالحق و القسمة بينهم بالسوية والعدل هما أهم ركيزتين أو عكازين يجب أن يقوم عليهما تدبير الشأن العام . وما سواهما فرع عنهما . فالدولة إذا لم تسس بالحق شعب أهلها الباطل ، وإذا لم تحضن بالعدل مزقها نير الظلم .إن المسؤول الأول الذي يقع عليه العبء الأكبر والنصيب الأوفر في إقامة العدل هو من يتولى مهمة القيادة والتوجيه ويقع في يده زمام الأمة . إنه المشار إليه فيقول سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه "إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن"، نعم إنه ولي الأمر ، ففي عنقه تتعلق تبعة العدل وضرورة الالتزام به والحرص عليه وأخذ الناس بأحكامه وسياستهم بها بحيث يكون حازما في كل ذلك كل الحزم ،لايتهاون ولا يهادن ولايمالئ ولا يتحيز بعيدا عن مضلات الهوى ومزالق الفتن فإن وفى وقى نفسه وأمته شرور الفرقة والهلكة والعثار والاعرض نفسه لــسنن الله التي تقصــم ظهــور الجباريـن وتحــيق بمكر الــظالمين الحائدين عن جادة الحق ومهيع المصلحين .