البدء :هذا المبحث لا يراد منه الحاق الأذى ولا يمثل لفتا لا نتباه الحكام ليحرموا موظفا من علاوة وإنما هو محاولة لتحليل حاصل يختلف الناس حوله :من يري أ ن الحاجة ماسة الي التقنين ومن يجامل في كون الأمور عادية وان لا داعي للقلق ,في هذا الاطار يتنزل هذا المكتوب .
لمحة:
سنة 1960 وبعد الاستقلال كانت الحاجة ماسة الي موظفين لتسيير
أمور الدولة الوليدة فتم استغلال خريجي المحاضر و كل من امتلك مستوي تعليميا يملأ فراغا ,وقتئذ كان الطلب علي الوظيفة أوفر من العرض وهو ما سمح بعدم مؤاخذة القائمين علي الشأن العام حال وجود تجاوزات من باب عدم العدل بين الموظفين العموميين .
وليس عيبا أن نسجل لذلك الجيل تشبثه بمشروع دولة العلم فيها أنفع من غيره كما أنها فترة مقارنة بكل الذي سيلحق ذهبية.
لقد كان الشغل الشاغل للجميع بعد ملاحظة فقر التركة الاستعمارية مقارنة بما عليه الحال في البلدان المجاورة , السباق مع الزمن لتدارك الممكن وسقي البذرة بالمباح لقطف مئة حبة في كل سنبلة .
وقد ذكرت مرات في كتابات سابقة انني لا اعشق الوقوف الطويل علي الماضي لجهله ثم لأنه لا تترتب عليه فائدة وكذلك اعتبارا ل :عفي الله عن ما سلف التي نكفر بها كل حين..
وفي فترة ما بعد تخرج عديد الطلاب من الخارج ومن بعض المعاهد في الداخل ظلت الأمور عادية ومقبولة -لا فضل لموظف علي آخر إلا بالمستوي العلمي ,استمر ذلك حتي عهد الاستثناء فتم استثناء كل آلية ذات صلة بالموضوعية لتكون الغلبة للشطارة والمخابرة.
أسجل هنا –و هذا معلوم –ان الأمور لم تكن كلها علي ما يرام لكن ميلها الي الاصلاح وما سيأتي بعدها من الارتجال وعدم الدقة وازدراء التعليم جعل اخطاء تلك الفترة يمكن اهمالها حيث لم تصدر عن سبق اصرار كما أن ضررها كان محدود ا.
في السبعينات ازدهرت الدولة ونمي التعليم بمساعدة المدرسين الخارجيين وزاد عدد المعاهد والثانويات و كانت النظرة الي الموظف العمومي نظرة احترام وتشكلت طبقة وسطي وقيم بعديد الاصلاحات ,كل ذلك لو استمر ولم تقم الحرب ما كنا بصدد مسلكيات غير طبيعية سنقف ما امكن عند بعض تجلياتها بشيء من التحليل .
الأصل في التعيين في وظائف الدولة:
تتأتي الترقية في وظائف الدولة في الأصل من المستوي المعرفي ومن التخصص ومن التدرج الذي يعني ببساطة : تعيين فلان مديرا اذا كان خدم في مؤسسة و غادر مسؤولها بسبب ترقية أو تقاعد أو أي سبب آخر فيكون السبق لمن يليه اذ لا يفترض ان يستقدم آخر يكون اقل معرفة و تجربة.
ان ذلك الفعل أقل ما يقال عنه أنه يسيء الي المؤسسات والي عمالها الذين سيتطلب تكيفهم مع القادم زمنا طويلا كي يفقهوا طريقته في العمل ويتكيفوا معها ما يجعل المؤسسة تعيش ركودا قد لا تتعافي منه اضافة الي احساسهم بعدم اعتبار خدماتهم وعدم الحاجة اليهم بسبب استثنائهم من قائمة البحث عن رأس مرفقهم .
ومن المفارقات أن مدراء المؤسسات ولما يأتونها بدلا من الاستئناس بطرق عمل موظفيهم ذوي الأقدمية في الميدان يقومون بفرض نمط جديد في الادارة ما لا يسمح بتراكم الخبرات ,وبدلا من ان يكمل اللاحق السابق التضاد .
والأعجب أنهم يصبحون أميل الي صداقة ذوي الجيوب الذين لم يدخلوا معهم فصول الدراسة وذلك علي حساب زملاء الصغر .
لكأن الترقية تعدي الي علائق جديدة وتدخل المرء مستوى جديدا و تلحق بالقوة بمناخ الأعمال .
وأما الواقع فقضي بان وظائف الدولة للحكام يتصرفون بها تصرف المالك يعطونها لمن شاءوا من دون أية مراعاة لا للتخصص ولا للأقدمية .
ولئن كان هذا مقبولا من ناحية قانونية شكلية -الصلاحيات - فانه يخفي مسائل جوهرية منها سيطرة الاحباط علي المرفق العمومي بدافع عدم الرضي في صفوف العمال الذين هم وقود الانتاجية .
لا نعارض أن تكون الصلاحية بيد الحكام ولكن ليعلموا أن الجميع متساوون وأن التعب الذي يكلف البحث عن مسؤول لهذه المؤسسة أو تلك يكون أقل عندما يعتمدون :الأسبقية والتجربة والعمر الوظيفي و التبعية للقطاع .
معلوم كذلك –وهذا مهم-أن القائمين علي الشأن العام لا يفقهون الجزئيات بل تقدمها الجهات المختصة التي كثيرا ما تدليهم في غرور لأغراض خاصة ...
ومن مصلحة المتنفذين غلق الباب وفرض الحصار أمام كل قادم ولو امتلك القدرة علي المساهمة في الاصلاح اذ لا يؤمن ان يكتشف فيزاحم ,الأحوط اذا الابقاء علي الدائرة موصدة والاستفراد بالتقرب.
ان اعتماد منهج :الترقية للأصلح والأقدم وهو موجود في عديد الدول يخلق شجرة التسلسل في الوظائف في كل قطاع حيث يصبح بالإمكان تعليقها علي الجدران ما يريح الجميع من الصراع والصدام والتنافس : فهناك منا من همهم التفطن الي كل وظيفة شاغرة لبدء عملية الضغط باتجاهها لحصدها تماما كاصطياد الضفادع للحشرات الليلية ,تمرر عليها اللسان المغناطيسي في غفلة فيتم ابتلا عها .
ان الحصول علي تلك الترقيات بهذا المنهج وان كان يضمن لصاحبه بعض الامتيازات إلا انه لا يسهل ديمومة العمل بالقطاع بل يلحق به كبير الأذى وذلك علي أصعدة كثيرة : تنافر -شقاق .
ان علينا معالجة هذا الاشكال لنسهل علي القائمين علي الشأن العام مهام التعيين وليتفرغوا لمسائل الدفاع والتنمية والفقر والتمثيل والمشاريع الكبري ولا ينشغلوا بالصراع علي الوظائف لتكون في الأخير للأقوى .
- أمثل لما أقول:
2015 تابعت في المدرسة الوطنية للإدارة بباريس :تكوينا حول تنظيم العمل البرلماني واطلعت علي عديد الأمور ومنها :
-أن رئيس القسم يعلم متي سيكون رئيس مصلحة والأخير ذو دراية بكيف ومتي يصبح مديرا وهلم جري ...
عامل الصدفة ومثله العوامل الأخرى الكل معدوم والحاسم في الأمر بل المقبول هو فقط احترام النظم المعمول بها .
ومع انني لا أقاسم القوم العديد من ما عندهم إلا أن تلك خصلة بل وفضلة أقل ما تفعل بالموظفين أنها تبعدهم عن التنافس السلبي وتفرض الانصياع للقانون .
أسباب التعيين :
ذكرنا المرجع الأصلي وأنه الجدارة والتجربة لكن علينا ان نعلم أن المهم عندنا هو الواقع لا دروس الكلية .
الاجماع حاصل اليوم علي أن التعيين يكون عبر العديد من الطرق :
-يري البعض أنه يتم بحسب الأرزاق والأقدار و....
- آخرون يرون أن الأرزاق تتطلب التحرك وانه لا بد من الحركة لنيل الترقية وكأن الموظف الذي لا يمتلك أدوات الحركة قد كتب عليه بالتقاعد في مكانه سنة اكتتابه .
-نظرية اخري تعزو الترقية للصدفة .
العجيب انني وانأ أتابع برنامجا في التلفزة الوطنية صادفت ضيف حلقة يحكي أنه عين وزيرا من دون علم مسبق وذلك في السبعينيات .
لا يمكن ان يتأتي ذلك الا من خلال الاعتماد علي الجدارة والتجربة ومتابعة سلوك الموظف العمومي متابعة دقيقة لاستكشاف قدراته والاستعانة بها عند الاقتضاء.
نعلم جميعا أنه في عهد غير بعيد كان التعيين للجهة والجماعة : ومع أنه توجه بدائي وعتيق الا ان مناصريه كثر كونه يشارك الجميع وبذلك يعم الخير .
ولأننا لا نحمل المسؤولية لأحد فالوظائف لا تتحمل الثغور ومن الطبيعي أن يملأ الفراغ لكن علي قاعدة التساوي في الحقوق والترقيات عبر آلية التحري المسؤول والموضوعية .
مصير الموظف العمومي :
1-يحالفه الحظ بواسطة الطرق التي ذكرنا فيترقى ويرقي ويرتقي ولا يفتأ من تعيين الي آخر .
2-أن يكون من الفئة الأخري –وهي كثيرة-يجهل كل شيء ولكنه يعلم أنه بحسب افتقاره الي علم التعيين الذي لا يدرس في الجامعات محكوم عليه بالبقاء في أول مهمة تعهد اليه عند اكتتابه .
مقترح للخروج من ألإشكالية : موظفون من فئة : منا أثرياء ومنا دون ذلك.
خلق لجان للترقيات بالجهات الحكومية خاصة بترقية الموظفين تتسلم ملفاتهم علي ان تتم الترقية على أسس منصفة وفقا لمبدأ المساواة بين الجميع .
وتكون المفاضلة بينهم وفقا لعناصر معلومة بحيث يعطى كل عنصر منها نقاطا محددة ومن ثم يرشح للترقية الحاصل علي الكم الأكبر من النقاط فإن تساوى موظفان او اكثر في النقاط يرشح الذي يشغل وظيفة بنفس فئة الوظيفة الشاغرة فإن كانوا في فئة وظيفة واحدة يختار الأعلى مؤهلا علميا فأن تساووا في المؤهل رشح الأقدم في المرتبة الحالية فإن كان تاريخ نيلهم المرتبة الحالية واحدا فيرشح الاقدم في المرتبة السابقة فإن تساووا رشح الأكثر خدمة في القطاع فإن تساووا في مجموع الخدمة تنظم مسابقة تحريرية او شفوية بين الذين تساووا في العناصر السابقة ويكون الفوز للذي يحصل على الترتيب الأول في المسابقة .
هذه الاجراءات رغم تعقيدها تؤمن الي حد كبير قدرا من العدالة بين الجميع وقد يصعب تجاوزها أو الالتفاف عليها .
لا يعقل عند العقلاء أن تخضع الترقيات التي ينشد الموظفون و هي أملهم لمبادئ الصدفة والعلائق الخاصة لما يترتب علي ذلك من استفادة عدد قليل علي حساب الغالبية العظمي كما ان هذا النهج سيكون من اهم الحوافز التشجيعية للموظفين المتميزين ألأكفاء . ان مبدأ المفاضلة هذا سيظل أهم سلم شفاف من خلاله يتم العدل بين الأطر وبدونه لن نسلم من الارتهان الي قانون الغاب الذي بدوره يؤدي لا محالة الي سلوكيات مشينة مثل الشطط في القرارات و التعسف الاداري .
ان حل هذه المعضلة أصبح ملحا وقد يكون بتنظيم أيام لتدارس هذا الواقع غير المطاق والخروج بتوصيات ترفع الي رئيس الجمهورية عله يتخذ القرار المناسب بتشريع لهذا الوضع ,كما أنه يصلح لحوار شامل .
والي أن يتم ذلك يكون الموظف قد أخطأ الاختيار بتوجهه الي المدارس ويكون أهله الذين اجتهدوا في تعليمه والمجتمع من دون وعي و الساسة و السكوت ,الكل قد جني عليه .
وكأن لسان الحال :
هذا ما جناه علي ابي (وما جنيت علي أحد )
مع رجاء الخير للجميع...