يكاد يكون من المتواتر عليه لدي الحادبين و المشفقين و الخائفين علي الحاضر و المستقبل الوطني أن المشهد السياسي الوطني مليئ من زَبَدِ الصخب و اللغط و الفُرْقَعَاتِ الإعلامية و" الخُشُونَاتِ اللًفْظِيًةِ" و الخشونات اللفظية المضادة؛ خِلْوٌ من ما ينفع الناس من "تلاقح" و "تزاحم" الأفكار التحسينية
المتجددة التي من المفترض أن تكون الوِرْدَ اليومي للموالاة مع الأفكار المضادة البديلة التي يلزم أن تكون الشغل الشاغل للمعارضة.!!
كما أنه من الملاحظ أن الفرص القليلة للحوارات و المناظرات الإعلامية بين الأقطاب السياسية عبر الفضاء السمعي البصري المستقل تضيع غالبا في مناكفات إثبات أو نفي الأخبار المتداولة حول بعض الملفات العامة و الشائعات و التسريبات حول بعض المسلكيات الخصوصية و الشخصية دون أن يكون للتفاعل الإيجابي بين الرؤي و الرؤي البديلة والأفكار و الأفكار المضادة إلا مكانة "القَرِيبَ المُعْتَرً"" Le statut du parent pauvre".
و يرجع الكثير من العارفين بالشأن الوطني "زَبَدِيًةَ المشهد السياسي الوطني" إلي استقالة النخب الفكرية و ما عَنً لي ذات مرة تسميته بالبيات النخبوي الذي يعني" ظاهرة جُنُوحِ و لُجُوءِ "النُخْبِ الثقافية الخَالِصَةِ" المنتمية لكل حَدَبٍ و صَوْبٍ سياسي إلي الجمود و الاستقالة التامة من الشأن العام كردة فعل علي التمييع و"الاستخفاف بالكفاءة" و تَدْلِيعِ و تَغْنِيجِ و إيثار الأنظمة الاستثنائية و شبه الاستثنائية "للنخب المغشوشة" ناقصة العقل و التربية و التعليم و الدين!!".
و قد أدي البيات النخبوي و استقالة "النخب الخالصة" القادرة علي إنتاج الأفكار و تصور الرؤي و تنزيل الاستراتجيات إلي تحويل المشهد السياسي الوطني إلي "شبه سوق للشائعات و الشائعات المضادة" و " مسرح للجدل السياسوي منزوع الأفكار"ذلك أن النخب الثقافية الخالصة تضطلع بدور صناعة الأفكار تماما كما يضطلع الصيادلة بمهمة صناعة الأدوية الناجعة بينما يتكفل الساسة بدور الطبيب الذي يشخص المرض و يصف الدواء المناسب فإذا فقد أو استقال الصيدلاني فاختفي الدواء فلا جُنَاحَ علي الطبيب .!!
ويشفع و يشهد لهذا التحليل السابق تشابه حال المشهد السياسي ببلادنا مع حال المشهد الصحي حيث أنه من المجمع عليه أنه إذا كان المشهد السياسي يتميز بانقطاع و شُحً أفكار المثقفين النخبويين في مقابل وفرة و طفرة مواقف وانفعالات الساسة و المتسيسين مما صَيًرَهُ أشبه بجعجعة بلا طحين؛ فإن المشهد الصحي يعاني من أزمة توفير و جودة الأدوية في مقابل وفرة و جَسَارَةِ الأطباء مما جعل الأطباء و ذوي المرضي يمسكون رؤوسهم بأيديهم حسرة و تعجبا من معرفة الداء و فقدان أو بطلان الدواء.!!
و الراجح عندي أنه ما من سبيل إلي استرجاع المشهد السياسي الوطني لعافيته إلا "باستفاقة نخبوية" تقدر حجم و مفصلية " اللحظة العربية و الإفريقية الراهنة" فتتنافس النخب الفكرية بصدق و حماس في مقارعة الافكار و الأفكار البديلة ابتغاء صياغة مشاريع مجتمعية بَوْصَلَتُها و خطها التحريري وقاية المجتمع من مخاطر عدم الاستقرار و عدوي "أوبئة" الفتن العرقية و الطبقية و المذهبية و الحفاظ علي بيضة الدولة الموريتانية الموحدة مهما كلف الثمن و بلغت المشقة و آلمت التضحية.