يقول المفكر العظيم و الحر علي شريعتي في كتابه " النباهة و الاستحمار " عندما يشب حريق في بيت ، و يدعوك أحدهم للصلاة و التضرع إلى الله – أنظر كم هي مقدسة هذه الدعوة ، لكن ما أبشع ما تؤدي إليه.
و هذا تماما ما تعمل أبواق النظام بمختلف تشكيلاتها على جعله واقعا فالحديث عن ظلم الأقليات و المستعبَدين يهدد الوحدة الوطنية
و مساندة المُعطلين عن العمل من حملة شهادات و غيرهم استغلال سياسي و انتقاد تردي الخدمات الأمنية و الصحية و التعليمية ما هو إلا دعوات للفتنة و تحريض على الفوضى و ما قرارات و اقتراحات وزير المالية و التحصيل المستفزة و الوقحة إلا انجازات كفاءة شابة و وطنية و ما الحريق الذي أتى على الأخضر و اليابس في البلاد إلا صور فبركتها معارضة متعطشة للحُكم فإياكم ثم إياكم أن تقطعوا صلاتكم ...!!
إنه عهد الاستحمار الذي " لازم " الناس و شغلهم عن المطالبة بأبسط حقوقهم و اكتتبت من أجله فرق و رصدت رواتب و مكاتب و مواقع فالمهمة واضحة و تتمثل في إلهاء الناس و تشتيت تفكيرهم و التقليل من أي مشكلة أو فضيحة تظهر و هو الدور الذي لعبته جماعة مكونة من رؤوس تشغل مناصب سامية و أذيال تتولى نشر ما جادت به قريحة هذه الأخيرة بتوقيع أسمائها سيئة الصيت.
بدأ عمل هذه الكتائب مع بداية انقلاب ولد عبد العزيز و الذي عملت جاهدة على إلباسه لبوس التصحيح و الإنقاذ و النجدة فكانوا يصيحون عبر وسائطهم أن أفرحوا يا موريتانيين فقد جاء الفرج و ظهر الحق و زهق الباطل حتى اقتنع الشعب أن أول رئيس مدني مسالم و ملتزم و منتخب للبلاد و الذي لم تتجاوز أسفاره ما بين القصر و مسجد القصر عكس الرئيس الحالي قد فسد و أفسد و أن أهله و محيطه قد أهلكوا الحرث و النسل لتبدأ بعدها في تصوير الجنرال بصورة الفقير بل رئيس الفقراء (حتى و إن كان سيتقاضى بعد ذلك أكثر من عشر ملايين كراتب و يستحوذ على كل المجالات حتى الحفريات) الذي يزورهم في أكواخهم و عُرُشهم، ليصل الاستحمار بعدها لمرحلته الثانية و التي رسمت على وجوه العامة نظرة من اللامبالاة و هم يسمعون و يشاهدون قيام النظام ببناء " مستوطنات" لخزانه القبلي على الوجه البحري الشمالي لنواكشوط و إعادة إعمار " عزيز- غراد " في الشمال و شهدت الدولة استحواذ البعض الآخر على أهم المناصب و تملك آخرين لساحات عمومية و عقارات و قطع أرضية تساوي المليارات.
لم يتوقف الاستحمار في هذه المرحلة عند هذا الحد فظهور وزير العلاقات مع البرلمان المثير للسخرية كان "هاشتاقا" و الذي أعلن فيه أن الفقراء غير معنيين بزيادة أسعار المحروقات من تخفيضها لأنهم لا يملكون سيارات و تبعه وزير المالية و التحصيل و الذي قال إن تخفيض أسعار المحروقات سيستفيد منه فقط أصحاب السيارات " ألما يعرفو منين طايحين أعليهم " تصريحات تقبلها الكثيرون ببعض التفهم نتيجة تعرضهم لحقن إعلامي موجه و مكثف من جهة و خوفهم إن كانوا موظفين من قطع أرزاقهم من جهة أخرى.
ليدخل عهد الاستحمار مرحلته الثالثة من أجل مأمورية ثالثة فأطلق عناصر الكتيبة و من بينهم وزراء هذه المرة العنان لمهاراتهم في التصفيق و تسفيه الدستور، ليس قرآنا منزلا يقول أحدهم و دعوه يكمل ما بدأه يصيح الثاني، فنجحوا أو كادوا يفعلون في إقناع شريحة معتبرة من المجتمع الموريتاني بضرورة التجديد للرئيس حامي حمى الدين و الوطن و حتى يستطيع مواصلة حربه المقدسة على الفساد و المفسدين حرب استثنت شخصه " الكريم " و زوجته و مقربيه و سلطت سيوفها على رقاب من لا واسطة له و لا جنرال فأسفرت عن قطع أرزاق و رواتب لا تساوي في قيمتها ثمن وجبة فطور لأحد مستشاري " المحجوب " ، حرب انتقائية بكل ما تحمله الكلمة من معنى و تجسيد.
ظاهرة استحمار الشعوب ليست جديدة و إن كان أشهر منظريها سحرة فرعون في العصر القديم و " غوبلز " وزير إعلام هتلر في العصر الحديث الذي نجح في تحويل الألمان إلى مجموعة من الحمير و أجبر القطيع آنذاك على إتباع سلوك واحد يخشى كل فرد الخروج عنه حتى لا يتعرض للقتل و طبُقت في موريتانيا على أيدي الأنظمة العسكرية التي تعاقبت على حكم البلاد و مع أن الوسيلة و الطريقة واحدة إلا أن الموريتانيين ربما و بسبب التعود قد استحلوا الاستحمار و إن كانوا يعبرون عنه بعبارات من قبيل " العافية أمونكة " و نحن أحسن حالا من سوريا و ليبيا و غيرها فمتى يخرج فرد عن سلوك القطيع و يعلن رفضه الاستحمار و متى يقتنع الموريتانيون أن إطفاء الحريق و لو أدى إلى قطع الصلاة يُعد "مرورا" نحو التحرر من نظام قبلي عسكري و ديكتاتوري.