ما دعا إليه وزير العدل من داخل قبة البرلمان، وما دعت إليه حركة "لا
تلمس جنسيتي" من فرنسا يتساوى من حيث درجة الخطورة، وكذلك من حيث مستوى الإهانة للدستور الموريتاني. المقلق في الأمر أن الدعوتين ـ ورغم
خطورتهما ـ لم تجدا اهتماما يذكر،
ولم تترتب عليهما ردود أفعال قوية تتناسب مع درجة خطورتهما، فلا النخبة نددت واستنكرت، ولا الجماهير تحركت
واحتجت.
وتكمن خطورة الدعوتين في تزامنهما، وكذلك في استهدافها للمواد المحصنة من
الدستور الموريتاني. ففي يوم الثلاثاء الموافق 23 مارس 2016 تحدثت
المواقع عن إعلان خطير يتعلق بالبدء في تنظيم سلسلة جلسات لمناقشة ضرورة
المطالبة بانفصال جنوب موريتانيا عن بقية البلاد، هذا الإعلان كان موقعا
باسم "حركة لا تلمس جنسيتي"، وكان صادرا من فوق الأراضي الفرنسية.
وفي يوم الأربعاء الموالي، الموافق 24 مارس 2016 طالعتنا المواقع بتصريح
مستفز يرى صاحبه بأنه على الشعب الموريتاني أن يطالب بزيادة مأموريات
الرئيس. التصريح جاء على لسان رجل قانون يشغل منصب وزير عدل، وقد تم
الإدلاء بمنكر القول هذا من داخل الجمعية الوطنية.
ولتقدير مدى خطورة الدعوتين، فإليكم هذه الفقرة من المادة 99 ، والتي
تمثل المادة الأولى من الباب الحادي عشر المخصص لمراجعة الدستور، تقول
هذه الفقرة : "لا يجوز الشروع في أي إجراء يرمى إلى مراجعة الدستور، إذا
كان يطعن في كيان الدولة، أو ينال من حوزة أراضيها، أو من الصبغة
الجمهورية للمؤسسات، أو من الطابع التعددي للديمقراطية الموريتانية، أو
من مبدأ التناوب الديمقراطي على السلطة، والمبدأ الملازم له الذي يحدد
مدة ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وذلك طبقا
لما تنص عليه المادتان 26 و28 المذكورتان سالفا". يمكنكم أن تلاحظوا بأن
دعوة حركة "لا تلمس جنسيتي" الانفصالية، واقتراح وزير العدل على الشعب
الموريتاني بضرورة المطالبة بزيادة مأموريات الرئيس، بأنهما تصيبان
المادة 99 من الدستور الموريتاني في مقتل، ولذلك فقد تساوت الدعوتان في
الخطورة، هذا إن لم تكن دعوة وزير العدل أشد خطورة، وذلك لأنها جاءت من
رجل قانون، ومن وزير عدل، ومن داخل الجمعية الوطنية.
ومما يزيد من خطورة الأمر أن دعوة وزير العدل جاءت ثلاثة أيام فقط بعد
تصريح لوزير الاقتصاد والمالية قال فيه بأن بعض الأنظمة تستحق التجديد
لمأمورية ثالثة ورابعة.
تزامن تصريحات الوزيرين مع دعوة حركة "لا تلمس جنسيتي" يطرح أكثر من
سؤال، خاصة وإذا ما علمنا بأن هذه التصريحات الخطيرة تأتي في ظرفية تمر
فيها البلاد بوضعية صعبة: اقتصاديا، وسياسيا، واجتماعيا.
ففي وضعية كهذه كان من المفترض بالسلطة الحاكمة أن تعمل كل ما في وسعها
من أجل التوصل إلى توافق سياسي يمكنها من عبور هذه الوضعية الحرجة بأقل
مخاطر، ولكن اللافت للانتباه أن السلطة تقوم بالعكس، وتبذل كل ما في
وسعها من أجل تعقيد الأمور، ومن أجل الزيادة في تأزيم الأوضاع. هذه
التصرفات المريبة من السلطة الحاكمة تدفعنا إلى طرح الأسئلة التالية:
ماذا تريد السلطة القائمة؟ ولماذا تعمل على تعقيد الأوضاع وتأزيمها بدلا
من العمل على انفراجها؟ ولأي شيء تخطط هذه السلطة؟
من المؤكد بأني لا أملك أجوبة على هذه الأسئلة، ولكني في المقابل أملك
الكثير من نقاط الاستفهام حول علاقة السلطة بحركة "لا تلمس جنسيتي"،
وبغيرها من الحركات ذات الخطاب العنصري..نقاط الاستفهام هذه قد لا تعطينا
إجابة على الأسئلة السابقة، ولكنها، في المقابل، تبرر لنا طرح تلك
الأسئلة.
في منتصف العام 2012 أجرت "جون آفريك" مقابلة مع السيد "وان بيران" منسق
حركة "لا تلمس جنسيتي"، وقد نقلت الجريدة عن المنسق أنه قال: " في الوقت
الذي نحن فيه على يقين بأننا نشكل الأغلبية بالمقارنة مع العرب البربر،
لا يزال الزنوج الموريتانيون يتعرضون للتمييز في جميع القطاعات، وبما
أننا مقتنعون بأن هناك تغييرا سياسيا حتميا في موريتانيا، لا نريد، عندما
يأتي ذلك اليوم، أن يتفرق الزنوج، في أحزاب بقيادة العرب البرابرة أو
الحراطين، ولهذا السبب لن ندخر جهدا لكي تكون جميع القوى الزنجية
الموريتانية ممثلة بقطب واحد، قوي وموحد".
صاحب هذا الخطاب العنصري هو نفسه الذي سيستقبله الرئيس محمد ولد عبد
العزيز في القصر الرئاسي يوم الأربعاء الموافق (9 ابريل 2014)، وبعد هذا
الاستقبال بأربعة أيام، أي في يوم الأحد الموافق (13 ابريل 2014) صرح
السيد "عبدول وان بيران" في مقابلة منشورة بالموقع الفرنسي لوكالة
الأخبار المستقلة بأن كل رؤساء مكاتب وكالة السجل السكاني في العاصمة قد
تم تحويلهم أو تجريدهم من مهامهم باستثناء رئيس مكتب تفرق زينة، وقد جاءت
عملية التحويل هذه استجابة لطلب كان قد تقدم به منسق حركة "لا تلمس
جنسيتي" خلال مقابلته مع الرئيس.
فأي خطاب يمكن أن تنتظرونه من حركة غير مرخصة يستقبل الرئيس منسقها،
ويعده بتحويل أو تجريد موظفين في مؤسسة حكومية؟ الدعوات الانفصالية لحركة
"لا تلمس جنسيتي" كانت قد سبقتها إليها حركة "أفلام"، ومن قلب العاصمة
نواكشوط، وكان الرئيس نفسه قد استقبل رئيس هذه الحركة في قصره، وربما
يكون استقبال رئيس حركة "أفلام" في القصر كان أيضا من أجل تشجيعه على
خطابه العنصري..هذا التشجيع الرسمي للخطابات العنصرية والتكفيرية سيستفيد
منه أيضا السيد "داوود ولد أحمد عيشه"، وكذلك "يحظيه ولد داهي".
كل أصحاب الخطابات العنصرية أو التكفيرية يتم تشجعيهم رسميا، وكل أصحاب
الخطابات المعتدلة يتم تهميشهم. كل الأحزاب السياسية والمنظمات المرخصة
يتم العمل على إضعافها، وبما في ذلك الأحزاب الموالية، وكل الحركات غير
المرخصة يتم العمل بشكل مباشر أو غير مباشر على تشجيعها وتقويتها.
فأي شيء تريده السلطة الحاكمة من وراء كل ذلك؟
في بعض الأحيان، وعندما أطيل التأمل في هذه التصرفات المريبة للسلطة
الحاكمة، فإنه يُخَيَّل إليَّ، وأرجو أن أكون مخطئا في هذه، بأن السلطة
الحاكمة تعمل عن قصد على تفخيخ اللحمة الوطنية، وعلى الرفع من مستوى
الاحتقان لدى المواطن العادي، وأنها تفعل كل ذلك من أجل إيصال البلاد إلى
حافة حرب أهلية، وعندما يظهر للجميع بأن البلاد مقبلة لا محالة على حرب
أهلية لا تبقي ولا تذر، عندها ستقرر السلطة الحاكمة تعديل الدستور وزيادة
المأموريات. هذا هو ملخص خطة الرئيس للبقاء في الحكم لفترة أطول حسب ما
يُخّيَّل إلىَّ. وبالتأكيد فإن غالبية الشعب الموريتاني ستقع في ارتباك
شديد عندما تجد بأن التضحية بالدستور قد أصبحت هي الخيار الوحيد المتاح
الذي سيحمي البلاد من الانزلاق ومن الدخول في فوضى وفي حرب أهلية لا تبقي
ولا تذر.نفس الارتباك يمكن أن يحدث لدى الشركاء في الغرب، والذين لا
تهمهم أصلا الديمقراطية، فهؤلاء عندما يجدون مبررا لدعم أي دكتاتورية،
فلن يتأخروا في دعمها، وقد يبررون ذلك الدعم بأنه من أجل الوقوف في وجه
تفكك بلد آخر في المنطقة.
ومهما يكن ما تخطط له السلطة القائمة، فإن الرد على تصريحات وزير العدل
ووزير المالية يجب أن يكون قويا وسريعا.
فلنقل لهما، وبصوت واحد : تملقوا_بعيدا_عن_الدستور.
حفظ الله موريتانيا..