في كل عمق كل بلدان الجوار و على غرار دول العالم المستنير يَنبضُ قلب "الثقافة" بدقات معارض الكتب و أماسي الفلكلور المصفى من وعثاء الزمن الحالك؛ دقات قلب تكشف عن انتظامها و حيويتها في محابر ألوان و خيوط ريشة و فرشاة الفنون الجميلة لتتراقص حية على أضواء جدران معارض التشكيلي
و في مساحات المنحوتات و قاعات العروض السينمائية و فوق خشبة المسارح الناطقة باحترام العقل و الذائقة البشرية الرقيقة المتمدنة والمميزين للإنسان السوي عن بقية الكائنات، و هي بذاك النبض الملهم تكون:
· الثقافة الراقية التي يمتلك كل فرد منها نصيبا أيا كانت الزاوية أو المنحى أو الوجه الذي ينظر منه إليها أو يلامس روحها فيجد ذاته و يحس قيمته و يرى ضرورة و وجوب عطائه؛
· الثقافة التي تُحيي موات الضمير البشري و تذكي جذوة الذكاء الإيجابي لينضح العقل بالإبداع فينتج فكرا تترجمه الحاجات إلى ماديات جليلة و يعطي ملموسا يرقى إلى الفكر في سموه، و ينصت فيسمع مناجاة خرير الحياة في أكثر و أبهى تجلياتها كمالا فلا يلوث دفقها و لا يحول عن مصبها وجهة مجراها الذي يحمل في رحلته الأزلية طمي الحياة و سموها.
إنها مشاهدات تلفزيونية قرصتني بشدة فآلمتني أولاهما من إحدى القنوات الجزائرية و هي تغطي فعاليات مسرح مدرسي غزير شاركت فيه عديد الفرق من البراعم يجيدون التمثيل و يغنون الوطن يشيدون بتاريخه و ثورته و لحمته و دينه و لغاته وسط تأطير بالغ الحضور و الوعي و الجد و الإيمان بالمسؤولية العظمى. قمت بسحب الأمر على واقع حقل التربية عندنا فاعتصر قلبي ألم حاد و مزق مغصٌ بألف ضرس كل أحشائي.
و أما المشهد التلفزيوني الثاني فمن السنغال حول معرض للكتاب نصف أجنحته عن المؤلف الوطني فاندهشت لغزارته و تنوع اهتماماته من العلمي التجريبي للإنساني و التربوي بكل أبعاده إلى الفني و تجلياته العديدة و بتعبيراته المختلفة فسحبت الأمر على واقع التأليف و الإنتاج العلمي المعرفي عندنا فسرت في جسمي قشعريرة أخرستني عن التعبير عن المرارة و الحسرة و الصدمة و الألم اللذين أحسستهم فرادى و مجتمعة. و قد تضاعف ألمي من جراء ما تبادر إلى ذهني من استعلائية معرفية لدى الكثيرين من أفراد نخبتنا في غير ما إنتاج يلجم عن عيب ذلك؛
و أما المشهد الثالث فجاء من قناة "المرابطون" المحلية و تحديدا في حلقة مميزة من برنامجها الحواري "المشهد" حول "واقع و تحديات فن المسرح في موريتانيا" و قد استضاف المسرحي الكبير و رئيس جمعية المسرحيين الموريتانيين ولد ميني. و ما كادت الحلقة الثرية بالنقاش الجاد تنتهي حتى انتابني شعور ثلاثي الأبعاد حيرة و استياء و غضب. فلا جهدا مسرحيا قام به الرواد لقي تشجيعا و دعما و لا هو أقنع بالإصرار و الشجاعة و لا الجمهور التحم به و رسالته العتيدة إن تضافرت لها اهتمام و تشجيع السلطات، و إصرار و إبداع المسرحيين أصحاب رسالته، و جمهور طلق مع المفاهيم الرجعية و نأى بنفسه عن التقوقع في أحضان الأحكام المسبقة و خرافية التأويل.
مشاهد ثلاثة عابرة في مشهد إعلامي نابض بالإبداع من حولنا جعلتني أفتش عن النخبة في هذه البلاد لأسألها عن هذا الركود السافر و بأي حق تُميع الحقل الأهم في ترسيخ قواعد بنيان الكيان هي صاحبة المسؤولية الأولى عنه أم أنها بما حصلت من رفيع المعارف و جليلها و من قيم العلوم و أدقها مستكبرة عن النزول إلى المدرج الأول لتلقين أفراد أمتها قواعد الصعود و تشعل الشموع لطرد الظلام، إذ مَنْ للمسرح سيد الفنون و معلم الشعوب سواهم بنظرتهم الثاقبة و أقلامهم الحبلى بالحرف و باصطفاف معارفهم إلى المدنية و سموها عطائها؟ استكبارٌ إن كان منه فقد ضاع المستقبل و تلاشى ما يكون مما فرضه ميلاد الدولة الجديدة و مسحةِ العصر التي غشيت أرجاء المعمورة فاستنار بها الكثير و اقتبس منها الكثيرون و لم يتسن لآخرين ذلك و رفض العديد و عجز البعض.
و يبقى السؤال الوارد دون سواه: إلى أي الفريقين الأخيرين ننتمي؟ هل علة الرافضة أم آفة العاجزة؟ أم هما معا؟ و ذاك أقرب إلى تفسير المصاب.