متى تخرج أمتنا من حالة الطوارئ التاريخية؟ / الحسن ولد مولاي علي

هنالك قيم ومثل إسلامية عليا، غابت من حياة المسلمين، في وقت مبكر من تاريخهم، وظلت وما تزال غائبة- كليا أو جزئيا-عن واقع الشعوب في الأقطار الإسلامية؛ إنها مثل الحرية والعدالة والشورى، وكل المبادئ والقيم ذات الصلة بالسلطة والدولة والحاكم والمحكوم.
إن الحديث عن غيبة تلك المثل والقيم والمبادئ، يستدعي اختراقا جريئا للحجب الكثيفة التي نسجت عبر الزمن،

حول تفاصيل وآلام الماضي السياسي البعيد للأمة، كما يتطلب التوقف، وبقدر من التوأدة عند العديد من إشكالات الحاضر في تجلياتها المختلفة، ليتسنى، من ثم، القيام بعملية استشراف بصيرة للمستقبل.
المرجعية الحقيقية التي تؤسس لغيبة تلك الأسس، في التراث والتاريخ الإسلاميين، لم تكن غير الآثار الكارثية للفتنة الكبرى، بعد الراشدين من السابقين الأولين؛ آثار مدمرة للكسروية والقيصرية التي أرساها أبناء الطلقاء على أنقاض العهد الراشدي، وقد قاومتها نخب وقيادات من الصحابة والتابعين وتابعيهم، لكنهم قتّلوا وصلبوا ومثل بقياداتهم، على مذبح الطغاة الذين استباحوا حرم الله ورحرم رسوله، فقتلوا ودمروا واغتصبوا ودنسوا، بلا حسيب أو رقيب.
أمام تلك الكارثة المتفاقمة، اضطر أغلب من اشتدت عليهم وطأة السلطان الغشوم وطغيانه، من صغار الصحابة، ومن كبار التابعين، ومن بعض الأئمة المتّبَعين، اضطرهم إلى الإحجام عن الإفتاء بفقه الخيارات والعزائم والمثل الإسلامية العليا؛ إبقاء على ما يمكن الإبقاء عليه من بيضة الأمة؛ فأفتوا بفقه الضرورات والإكراهات، مما يشبه قوانين الطوارئ المعروفة اليوم.
تلك هي الأرضية التي نبتت فيها الاصطفافات الطائفية المقيتة، واستوت على سوقها، فنشأت عشرات الملل والنحل، والتبس الحق بالباطل، والمعروف بالمنكر، وأصبح كل أمر أو نهي، خروجا على السلطان، وبات رفض الشيخين ولعنهما تشيعا، ومناصبة علي وبنيه ولعنهم تسننا، وأجبر الناس على البيعة بالإكراه.
هنا نشأ فقه الطاعة العمياء للغشوم الظلوم، اتقاء فتنة تدوم، وتأسس فقه القتال وراء كل بر وفاجر، وفقه الصلاة خلف أمراء السوء، وفقه التفتيش عن العقائد والآراء والأحوال، وفقه القتل على الزندقه، وبات القتل بالظنة سيفا مصلتا على رقاب الناس؛ إلى آخر القائمة الطويلة من آثام السلاطين وبوائقهم، مما لم ينزل الله به سلطانا.
وجاء حمل السلاطين المتأخرين للناس على التقليد الأعمى لما أفتى به الأولون وسطروه من مختصرات ومطولات، ومنعهم من إعمال عقولهم التي هي مناط تكليفهم، وزجرهم عن التفكير والنظر والاجتهاد، والاكتفاء في أمور العقائد والأحكام والأخلاق بالتلقين، فكان كل ذلك بمثابة كومة القش التي قصمت ظهر تراثنا الدستوري البائس.
تلك ملامح وجه من وجوه تاريخنا، أيام كان العالم غير العالم كما نعرفه اليوم، وكنا يومئذ- برغم كل المصائب- من أسياده، أو نحن أسياده؛ حيث استطاعت الأمة بمختلف مكوناتها، وبشعوبها وألوانها ولغاتها، وبصناعها وزراعها وتجارها، وبعلمائها وصلحائها وخبرائها ومفكريها، وبتكافلها، وزكواتها، وأوقافها، استطاعت الأمة، وليس السلطان، بناء تلك الحضارة الزاهية، في تلك الظروف المتقلبة غير المواتية.
اليوم تعيش الأمة في عالم غير الذي ألفه آباؤها وأجدادها؛ عالم لا نشارك في قيادته، بعد أن أحالنا عدونا الذي غلب على أمرنا، إلى مؤخرة الركب البشري، واستبد هو بالأمر من دوننا، فبات يدير شأننا مع شأنه. وفي الوقت الذي فتح فيه لشعوبه في بلدانهم عصرا من النور والحرية والانعتاق والتقدم العلمي والتكنولوجي، ورغد العيش وكفايته، ثم مكنهم من إدارة أبسط شئونهم وأعقدها، بديموقراطية، تقترب في وجهها السياسي من مقاصد شورانا التي هجرناها منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، أمعن عدونا سيد العالم، بازدواجية معاييره الفجة، ليس في جعلنا ذيلا للأمم فحسب، ولكن في حرماننا من التمتع بأي من القيم  والمثل العليا لرسالتنا وديننا الحنيف، بل ومن الاستفادة من الثمرات المختلفة للعالم الذي نسكنه وإياه.
وليت الأمر توقف عند ذلك، لكننا، وفي كل مرة تشرئب فيها أعناق أي طرف من أطراف أمتنا للانتفاض ضد مصائبنا الجمة وفي مقدمتها شدة المؤونة وجور السلطان، أو ضد معايير الغرب المزدوجة المطبقة علينا، أو ضد أزلامه ومشاريعه الهدامة فينا، أو ضد ربيبته التي زرعها خنجرا مسموما في منطقة القلب من أمتنا؛ كلما اشرأب طرف من أطراف امتنا لشيء من ذلك، جلب العدو بخيله ورجله، وحرك فيالقه العسكرية وغير العسكرية، وأغرى الحكام والدوائر الراضخين له، بمزيد من البطش بشعوبهم، ودفن طموحهم إلى الانعتاق مرة أخرى.
وهكذا إذا، استطاع الإرث التاريخي والتقليد الأعمى للغابرين، وطغيان الحكام الظلمة، ومن وراء كل ذلك الغرب الغالب وتدابيره، وما يحركه من ثورات مضادة مدمرة، استطعوا جميعا إقناع شعوبنا المغلوبة على أمرها بأنها- من دون بقية خلق الله- واقعة، لا محالة، بين خيارين اثنين، لا ثالث لهما؛ فإما الصبر على ظلم طاغية غشوم، وإما الانحدار إلى قاع فتنة تدوم؛ فهل كتب على أمتنا- وحدها دون بقية خلق الله- أن تظل بين فكي كماشة الخيارين الحصريين:فتنة تدوم، أوظالم غشوم؟؟

1. أبريل 2016 - 18:28

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا