كلما تأملت وأعدتُ التأمل في تصريحات الوزراء الثلاثة المتعلقة بتعديل الدستور وبمأمورية ثالثة خرجتُ بنتيجة جديدة مخالفة لنتيجة أخرى كنتُ قد توصلتُ إليها من خلال تأمل سابق أو من قراءة سابقة لتلك التصريحات. وفي المجمل فقد تحصلتُ بعد الكثير من التأمل وإعادة التأمل في تلك التصريحات
على سبع قراءات مختلفة جاءت على النحو التالي:
القراءة السابعة: تقول هذه القراءة بأن الوزراء الثلاثة قد أصابهم مس من جنون، ولذلك فقد أخذوا يتلفظون بحماقات وسخافات تتعلق بالمأمورية الثالثة وتعديل الدستور. إن ردة الفعل التي علينا اتخاذها إن صدقت هذه القراءة يجب أن تقتصر على الدعاء للوزراء الثلاثة بالشفاء العاجل، دون أن يفوتنا أن نأخذ الحكمة من أفواه المجانين، والحكمة التي يمكن أخذها من مجانين المأمورية الثالثة تقول بأن الدستور ليس وحيا ولا قرآنا منزلا.
القراءة السادسة: تقول هذه القراءة بأن هناك جهة خفية داخل النظام تخطط للتعجيل بإسقاط هذا النظام، ويبدو أن هذه الجهة تمتلك من الوسائل والقدرات الخارقة ما يكفي لجر النظام القائم إلى هلاك محقق. اللافت في الأمر أن هذه الجهة الخفية قد وفقت كثيرا في اختيار التوقيت المناسب لإغراء الوزراء الثلاثة بالتحدث عن تعديل الدستور وعن المأمورية الثالثة، فلا توقيت أنسب من هذا التوقيت الذي تم اختياره : نظام يتخبط في أزمات يصعب عليه تجاوزها، ومع ذلك يقرر الوزراء الثلاثة إلى أن يزيدوه من الشعر بيتا، ومن الأزمات أزمة جديدة قد تعجل بهلاكه. وحتى ولو افترضنا بأن النظام القائم يفكر بجد في تعديل الدستور وفي مأمورية ثالثة ألم يكن الأولى به أن ينتظر وقتا أنسب للإعلان عن ذلك؟ ألا يملك هذا النظام متسعا من الوقت (ثلاثة سنوات وزيادة) ؟ فلماذا هذا التعجل للترويج لمأمورية ثالثة؟ ولماذا تم اختيار هذه الظرفية بالذات، والتي يتخبط فيها النظام في أزمات بلا أول ولا آخر، للترويج لمأمورية ثالثة؟ كل هذه الأسئلة قد توحي بأن هناك جهة خفية ما تخطط من داخل النظام للتعجيل بإسقاطه، ولهذه الجهة الخفية أقول : "برافو... لقد لعبتيها صح، ولقد أوقعت النظام في ورطة قد تعجل بسقوطه"!!
القراءة الخامسة: تقول هذه القراءة بأن الوزراء في كامل قواهم العقلية، وبأنه ليست هناك أي جهة من داخل النظام تعمل في الخفاء من أجل إسقاطه، وأن هذه التصريحات ما هي إلا بالونات اختبار، أو محاولة لجس نبض الشعب والمعارضة، وأنها تدخل في إطار محاولة جادة من النظام القائم لتعديل الدستور من أجل مأمورية ثالثة. إن ردة الفعل في هذه الحالة يجب أن تكون هبة شعبية غير مسبوقة لوقف أي محاولة من هذا النوع، وفي هذا الإطار فإنه علينا أن نشيد بوقفة شباب "تملقوا بعيدا عن الدستور"، وكذلك بكل المبادرات الشبابية الأخرى التي بدأت تتشكل في مواقع التواصل الاجتماعي، ودون أن ننسى بيان اللجنة الإعلامية للتكتل، ولا المؤتمر الصحفي القوي الذي نظمه المنتدى للرد على تصريحات الوزراء الثلاثة. ولكن كل هذا لا يكفي فالتفكير في تعديل الدستور يستحق ردة فعل أقوى، ويستحق تنسيقا أوسع بين كل من يعارض ذلك التعديل.
القراءة الرابعة: تقول هذه القراءة بأن السلطة الحاكمة لا تفكر في مأمورية ثالثة، ولكنها في المقابل تفكر في تعديل الدستور من أجل تغيير النظام السياسي، وتحويله من نظام رئاسي إلى نظام برلماني، وتقول هذه القراءة بأن تصريحات الوزراء الثلاثة المروجة للمأمورية الثالثة ما هي إلا بداية لنشاط كبير سيتواصل في الفترة القادمة من أجل إرباك المعارضة حتى تقبل في وقت لاحق بتعديل النظام السياسي، وبالمناسبة فإن المادة 99 من الدستور الموريتاني لم تكن صريحة في تحصين النظام السياسي. إن تصريحات الوزراء الثلاثة تهدف إلى تهيئة الأرضية لإبرام صفقة سياسية تتنازل السلطة بموجبها عن تعديل الدستور من أجل مأمورية ثالثة مقابل أن تقبل المعارضة بتعديل النظام السياسي ليصبح نظاما برلمانيا الشيء الذي قد يستفيد منه الرئيس الحالي للبقاء في السلطة من بعد اكتمال مأموريته الثانية. إن ردة الفعل التي يجب على المعارضة أن تتخذها إن صدقت هذه القراءة يجب أن تكون ردة فعل ذات طبيعة استباقية، فيجب على المعارضة وبكل أطيافها أن تعلن ومن الآن، وبلغة سياسية فصيحة صريحة، بأنها لن تقبل تحت أي ظرف بتعديل الدستور، سواء كان ذلك التعديل من أجل مأمورية ثالثة، أو كان من أجل تغيير النظام السياسي.
القراءة الثالثة: أن تكون هذه التصريحات لم تأت في إطار أي خطة مدروسة تهدف إلى تعديل الدستور، وإنما هي مجرد تصريحات جاءت بمبادرات خاصة من الوزراء الثلاثة الذين قرروا أن يتنافسوا في التزلف والتملق للرئيس. وربما يكون السبب في تزامن هذه التصريحات هو أن الوزراء قد تلقوا إشارة من هنا أو من هناك يمكن تفسيرها بأن الرئيس لا يفكر في مغادرة السلطة بعد اكتمال مأموريته الثانية، فما كان منهم بعد تلقي تلك الإشارة إلا أن سارعوا ـ وبمبادرات خاصة ـ إلى الدعاية والترويج للمأمورية الثالثة. ردة الفعل في هذه الحالة يجب أن توجه إلى الوزراء الثلاثة، ولغيرهم من الوزراء ممن قد يفكر مستقبلا في أن يلتحق بهم. علينا أن نذكر الوزراء الثلاثة بأن الزمن قد تغير، وبأن التزلف والتملق قد أصبح يسجل بالصوت والصورة، وبأن ما يقومون به الآن من تزلف وتملق للرئيس سيندمون عليه غدا، وسيبقى وصمة عار تلاحقهم، وتلاحق أبناءهم وأبناء أبنائهم.
القراءة الثانية: أن يكون النظام قد أراد بهذه التصريحات المستفزة أن يشغل الناس عن الاحتجاجات التي أخذت تتمدد وتتوسع في الفترة الأخيرة، وخاصة منها تلك التي تدخل في إطار حملة "ماني شاري كزوال". إن الاحتجاجات المرتبطة بواقع الناس المعيشي هي التي يخاف منها النظام خوفا شديدا، وذلك بسبب أن المواطن العادي في المدن الداخلية وفي القرى و الأرياف قد ينخرط في تلك الاحتجاجات، وذلك ما ظهرت بوادره في حراك "ماني شاري كزوال" والذي بدأ ينتقل شيئا فشيئا من حراك يطالب بتخفيض أسعار المحروقات إلى حراك يهتم بكل ما له صلة بغلاء المعيشة. هذا عن الاحتجاجات المتعلقة بغلاء المعيشة أما الاحتجاجات المتعلقة بتعديل الدستور فقد لا ينخرط فيها المواطن العادي في المدن والقرى، وذلك على الرغم من أن تعديل الدستور من أجل زيادة المأموريات هو أشد خطرا على البلاد من رفع الأسعار، ومن فصل العمال، ومن إثقال كاهل المواطن بالضرائب. إن هذه التصريحات يمكن أن تكون قد أطلقت من أجل تحويل الاحتقان الشعبي المتنامي من احتقان ضد غلاء المعيشة إلى احتقان ضد تعديل الدستور، وعندما تتم عملية تحويل الاحتقان بنجاح، فلن يكون من المستغرب أن يطل عليكم الرئيس في مؤتمر صحفي ليقول لكم بأن الحديث عن تعديل الدستور هو مجرد خرافة من خرافات المعارضة، وبأنه ـ أي الرئيس ـ لم يفكر يوما في تعديل الدستور، وأنه على استعداد لأن يتعهد ـ ومن الآن ـ بأنه لن يعدل الدستور، ولن يترشح لمأمورية ثالثة. ردة الفعل التي يجب اتخاذها في حالة صدق هذه القراءة هو أنه علينا أن نقف بحزم ضد تصريحات الوزراء الثلاثة، ولكن ذلك، يجب أن لا يكون على حساب الاحتجاج ضد غلاء المعيشة.
القراءة الأولى : هذه القراءة تقول بأن تصريحات الوزراء الثلاثة مثلها مثل كل تصرفات النظام القائم لا يمكن إخضاعها لأي منطق، ولذلك فإنه لا يمكن تقديم أي تفسير منطقي لها، ولا يمكن بالتالي تحديد ردة الفعل المناسبة التي يجب علينا اتخاذها للرد على تلك التصريحات.
ثلاث ملاحظات ومقترح
الملاحظة الثالثة : لا شك أنكم قد لاحظتم بأن القراءات والملاحظات قد تم ترتيبها بشكل مقلوب، فالقراءات قد بدأت بالسابعة وانتهت بالأولى، والملاحظات بدأت بالثالثة، وانتهت بالأولى. إن من أسباب ذلك ـ وهذا هو السبب الثالث ـ هو أنه لا شيء في هذه البلاد يخضع للمنطق، وإن خضع لمنطق كان ذلك المنطق مقلوبا ومعكوسا، ولذلك فقد تم ترتيب القراءات بشكل مقلوب. أما السبب الثاني هو أني لم أستطع أن أحدد أي قراءة من هذه القراءات السبع أقرب إلى الحقيقة، وأولى بالتالي بالرقم الأول، ولذلك فقد قدمتها بهذا الترتيب المقلوب، وهو الترتيب الذي سيجعل القارئ يفشل في أن يحدد القراءة التي اعتبرها كاتب هذه السطور هي القراءة الأقرب إلى الحقيقة، فهل هي السابعة التي بدأ بها المقال أم أنها الأخيرة التي تم منحها من حيث الترقيم الرتبة الأولى؟ أما السبب الأول فيتعلق بأهمية موضوع المقال، فالحديث عن تعديل الدستور يجب أن يختلف تماما عن كل الأحاديث الأخرى، ومن هنا جاءت فكرة قلب الأرقام ليتميز بها هذا المقال عن غيره من المقالات.
الملاحظة الثانية : لقد استخدمتُ في هذا المقال كلمات ليس من عادتي استخدامها ضد أي أحد، ولقد وصفتُ وزراء بالتزلف والتملق، ويؤسفني ذلك، خاصة وأن من بين أولئك الوزراء من تقدم به العمر. لم أكن أرغب إطلاقا في استخدام تلك الكلمات التي لايليق بي استخدامها ضد أي أحد، وهي لا تنسجم مع الضوابط التي حددتها لنفسي، ولا مع "خطي التحريري"، ولكن، ولأن الأمر يتعلق هنا بتصريحات قد تتسبب ـ لا قدر الله ـ في إراقة الدماء وفي إدخال البلاد في فتنة كما حدث في بلدان أخرى، فتعديل الدساتير، وتمديد المأموريات قد أصبح يشكل ـ في أغلب الأحوال ـ الشرارة الأولى لدخول البلدان في حروب وفتن داخلية. فلأن الأمر يتعلق هنا بتصريحات قد تنجر عنها مفاسد كثيرة فقد ارتأيت أن استخدم كلمات غير لائقة، لم يكن من عاداتي أن استخدمها. فمن يدري فربما يساعد استخدام تلك الكلمات في وقف موجة التزلف هذه؟
الملاحظة الأولى: وهذه قد تخرج قليلا عن نص المقال، وإن كانت ذات صلة قوية بمضمونه. هذه الملاحظة أكتبها لأقدم تحية مستحقة للنائب في الأغلبية "لاله بنت حسنه"، والتي كنتُ قد انتقدتها في وقت سابق بسبب ميلها إلى الحديث باللغة الفرنسية داخل البرلمان الموريتاني، فالحديث داخل البرلمان يجب أن يقتصر على لغاتنا الوطنية الأربع، واللغة الفرنسة ليست من ضمن تلك اللغات. إن للنائب "لاله بنت حسنه"، عدة مواقف مشرفة ميزتها عن غيرها من "نائبات" الأغلبية ذكورا كانوا أو إناثا، ومن هذه المواقف يمكنني أن أذكر:
ـ لقد زارت "حراس ازويرات" في مكان اعتصامهم على مشارف العاصمة، وقد قابلتها هناك، وكانت بذلك هي النائب الوحيد الذي زار أولئك الحراس.
ـ لقد أعلنت عن تضامنها مع عمال "اسنيم" المضربين، ولقد طالبت الرئيس بالتدخل لحل مشاكل العمال المضربين. ولقد قابلتها أيضا في أول مسيرة تضامنية مع عمال "اسنيم" تم تنظيمها في العاصمة، وكان ذلك أمام مقر ممثلية "اسنيم" في العاصمة، ولم تتردد في توجيه تحية للشباب المشارك في تلك المسيرة.
ـ لقد أعلنت عن موقف مشرف من قضية تعديل الدستور، واستحقت بذلك أن توجه إليها تحية عند أي حديث عن تعديل الدستور.
المقترح: هذا مقترح أقدمه لأساتذة القانون، وللمحامين، ولطلاب الماستر في هذه الشعبة، فعلى هؤلاء جميعا أن يقودوا حراكا غير مسيس للتصدي لأي محاولة للعبث بالدستور. فكم هو جميل أن نرى وقفة خاصة بالقانونيين، يتم فيها ارتداء العباءة السوداء، ويتم فيها التنديد بتصريحات الوزراء الثلاثة. وكم هو جميل أيضا أن يطلق القانونيون عريضة للدفاع عن المادة 99، وأن تكون موقعة من طرف 99 من خيرة القانونيين في هذه البلاد.
حفظ الله موريتانيا..