الفقهاء وفقه الدولة وأزمة التجديد بين دعاة الغلو والإفراط والجمود؟! / د.محمد المختار ديه الشنقيطي

يقول الحق جل وعلا في الشانئين المخالفين والمجادلين في هذا الدين وقيمه وبعد دحضه لترهات وتخر صات وتزوير فقهاء أهل الكتاب من قبلنا في أصول الأحكام ومصادر التشريع وحكم العقائد والتعاطي والمعاملات:{ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولاآباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب

 الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن يتبعون إلا الظن وإنهم إلا يخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين}الأنعام الآيات 147-149. وما أشبه الليلة بالبارحة فالقوم كأنهم القوم لكنهم ليسوا يهود منظري قريش؟!!
لقد كثرت في عالمنا الإسلامي اليوم الدعوات والمؤتمرات والندوات والدراسات بل وحتى المقررات الدراسية التي تتناول أزماتنا السياسية والفكرية والفقهية والمجتمعية والتي أنتجت هي بدورها هذا الواقع الفقهي التائه والبائس والصارخ بالشقاق والخلاف والاقتتال المفروض علينا والمسمى بالحرب على التطرف والإرهاب والذي تجند له كل طاقاتنا  المادية والمعنوية والمنهزمون حضاريا من علمائنا ودعاة الفتنة والعمالة والارتزاق، وهي الحرب التي  تهدد بالويل والفناء آخر قلاع وحصون الأمة ومقومات وجودها  التدين كقيم والحاملين لواء الدفاع عنه جهاداً ووقوفا في وجه الظلم والبغي والاستبداد الملزوق بالإسلام تشويها له وتنفيراً للناس منه !!!
ولاجدال اليوم بين العلماء والمفكرين في أن القيام بأمانة البيان للناس وحمل رسالة الفقه الإسلامي النبيلة أن ذلك ليس مرتبطاً بمخالفة خبرات الإنسان، بل مرتبط بشكل أساس بتقديم أدق منظور فقهي  في كل حياة الناس يستوعب مراد الشارع ومقاصده العامة التي يحبها الله ويرضاها ويبتغياها في أحكامه كالعدل والقيام بالقسط ونشر المحبة والسلام والحرية، ورعاية المصالح، ورفع الحرج، وإزالة الضرر، واعتبار المتعارف عليه عرفا بين الناس من مكارم الأخلاق وأمهات الفضائل، وإظهار الدين ونحو ذلك  من الغايات الإلهية الشريفة  المطالبين نحن شرعاً بإقامتها ورعايتها.
وأن التحدي الأخطر والقضية الكبرى ليست في الشباب المدفوع للتطرف والموصوف بالإرهاب وإنما القضية الكبرى أساساً  في عدم فهم القائمين على الأمر أن المستهدف حقيقة هو الإسلام، فالإسلام هو المستهدف لأن الغرب عامة يعلم أن الإسلام هو البديل الحضاري الأوحد لثقافتهم وحضارتهم وهو البديل القوي الذي يمكنه أن يملأ الفراغ الذي تعانيه الحضارة الغربية اليوم بخلاف الأطروحات الصينية أو اليابانية التي لا تقدم جديداً يغني، والغرب يخشى مما يسميه الحركات الأصولية التي تمثل بعثاً جديداً للهوية الإسلامية إذ إنها في حالة صعود مقلق بالنسبة لهم، فالجماهير التي تؤيد الحركات الإسلامية اليوم هي نفسها التي كانت تؤيد حركات النهوض والتحرر القومي في العقود الماضية وهذا ما يقلقه ويزعجه ؟!
الأمر الثاني الذي يجب أن ندركه جيداً أن المشروع الحضاري الإسلامي لا يمكن أن يحقق تميزه الإسلامي، ومن ثم أداء دوره العلمي والقيمي العالمي وفق منهج الله إلا إذا ركن إلى العلم الشرعي بمعناه الواسع وتم تأهيل العالم المسلم بحيث تكون دراسته لعلم الشريعة دراسة تأصيلية مرتبطة بالوقائع الحية التي تعيشها الأمة والعالم في هذا العصر والله يقول:{ ما فرطنا في الكتاب من شيء} ويقول:{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} أقوم في كل مناهج الحياة  ومظاهر الوجود واحتياجات الإنسان في معاشه ومآله، قال تعالى:{ فقلت استغفروا ربكم  إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدراراً ويمدكم بأموال وبنين ويجعلكم جناة ويجعلكم أنهاراً مالكم لا ترجون لله وقراً وقد خلقكم أطواً}.
ولا شك كذلك أن الوعي بضرورات فقه الواقع من حيث الأصول والضوابط هو الذي يساهم في تحقيق بناء الوعي الحضاري والحصانة الثقافية، وإحياء  منهج فقه السنن، كسبيل لإعادة قراءة الواقع بدقة وموضوعية، والتبصر بكيفيات تغييره، وتحديد مواطن الخلل وأسباب التخلف التي لحقت بالأمة المسلمة فأقعدتها عن ممارسة دورها في الشهادة على الناس وإلحاق الرحمة بهم جميعاً، والتحقق بالرؤية الاستراتيجية التي تفقه الحاضر، وتستشرف الماضي، وتبصر المستقبل، وتدرك العواقب والتداعيات المترتبة على فعلها، فتتكلم قليلاً وتنتج  جميلاً، وتفكر كثيراً:
متى وكيف ولماذا تُقْدم ؟ ومتى ولماذا تُحجم ؟ وتدرك أن القيم الإسلامية التي خوطبت فيها بالكتاب والسنة تشكل الوجهة والبوصلة الدالة على التوجه، وتشحذ العقل لإبداع المناهج والبرامج ووضع الأوعية الشرعية لتنزيل هذه القيم على حياة الناس، وتقويم واقعهم بها، والتخطيط لمستقبلهم على هديها، والاعتقاد بأن هذه البرامج والمناهج حتى ولو استنبطت من خلال قيم الكتاب والسنة، فلا تمتلك عصمة وقدسية وصوابية الكتاب والسنة، لأنها أفعال واجتهادات بشرية نسبية، يجري عليها الخطأ والصواب، لذلك فهي خاضعة دائمًا للنقد والتقويم والمراجعة والمناصحة والمشاورة والمثاقفة لإنتاج فقه حي وواقعي يستجيب لحاجيات الدولة وضرورات الواقع العلمي والعملي للأمة؟,
ولاشك ثالثا: أن علم الفقه والتفسير القديمين والجديدين يحتاجان إلى مراجعات نقدية جريئة وجذرية، لأن الأدوات اللغوية والمعرفية التي قام عليها القديم منها وبعض الجديد لم تعد قائمة؛ والمقاصد دائرة مع الزمان والمكان، لكن السؤال الذي يفرض نفسه على الفقهاء والعلماء المتصدرين لعملية الإحياء والتجديد لقيم الدين هو: أين الجديد أو التجديد في فقه السياسة الشرعية والمعاملات العملية التي تزكي السياسة والمعاملات وتجدد التدين في حياة أفراد الأمة وتجمع كلمتهم على العدل والمحبة والسلام استمساكاً بقيم الدين وفخراً واعتزازاً به واتحاداً وتوحيدا في وجه خصومه والعابثين بقيمه وأعدائه على حد سواء وما الذي أنتجه أولئك العلماء أو حاولوا استحداثه للتعامل مع نص الوحي القرآني والهدي النبوي"السنة المنهاج" ؟!
وإن تنزيل مناهج الاستنباط في الأحكام على الوقائع هو التأويل فالمقصود به الفهم والتفسير الذي يدندن أولئك الفقهاء العلماء حول إنجاز رؤية جديدة للفقه ألمقاصدي والتفسير التنزيلي فيه للوحي الذي يجب أن يتنزل ويحكم الزمان والمكان لا أن يحاكم ويتحكم فيه الزمان والمكان المحكومين علماً وعملياً بأدواتهما ووسائلهما الحادثة وغير القابلة للتكرار كماً وكيفا والمحدود علم من أنتج أدواتهما ببعض علم اليوم دون علم الأمس والغد.
ومن خصائص الوحي أنه منزل مِن لًدٌن من يعلم ما كان وما سيكون وما هو كائن ووحيه غير محكوم عليه بالزمان والمكان، ومن طبيعته القابلية للتنزل على المكان والزمان ليحكمهما ويتحاكما عليه لأنه:{ أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير}وتحقيق ذلك عملياً هو الذي يشكل التحدي الأكبر لأولئك الفقهاء المجددين ويطرح عليهم سؤال البدائل الجديدة أو الخيارات المستحدثة، والتي تحتاج هي أيضاً إلى فرضيات جديدة، لا تبدو حاضرة، كما لا تحضر أية قواعد أو رؤى لفتاوى من يمثلون فقه تحريف الغاليين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين عناوين المتفيهقين الجامدين والجاحدين السياسيين وأولئك الدعاة أو الأدعياء المتشددين المتطرفين ؟! .
وعلى فظاعة ما يقوم به الفقهاء الجدد من إشاعة لفقه المقتسمين؛ فإن التقادم ومضي الزمان يظلان علة علم الفقه والتفسير القديمين، تماماً وبالقدر الذي هو علة التحليق العشوائي في فقه السياسة الشرعية والتفاسير المقاصدية لنصوص الوحي المتعلقة بالعمران والاجتماع والحكم و التفسيرات الجديدة لتلك النصوص ؟.
ما من شك أن نقد مناهج العلوم الدينية مثل التفسير والفقه والأصول وعلم الكلام وعلوم الحديث وعلوم العربية ضرورة علمية وعملية يفرضها الواقع بكل احتياجاته وتحدياته وهو عمل بالغ الأهمية والجدة والخطورة.
وذلك أن التأزم في مجالات الفقه التقليدي و ما يسمى بعلوم برنامج  الإفتاء وحتى الدرس الإسلامي والمنهاج الدعوي أمور لا يمكن إنكارها، ولا يستطيع معالجات ذلك كله إلا الراسخون في الفقه من الذين أوتوا العلم بالكتاب والسنة وكيفات تنزلهما في الواقع العملي لحياة الناس، قال تعالى:{ ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق.وقال:{ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب}.وقال:{بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}.
ولقد كان أكثر فقهاء المقاصد من الدعاة المعاصرين من أمثال الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي وعبد الله دراز ومالك بن نبي  والشيخ حسن عبد الله الترابي وطه جابر =العلواني وأحمد الريسوني والشيخ القرضاوي على علم ووعي تام في أعمالهم بمحاولات الإصلاح والتجديد في سائر تلك العلوم في المناهج والموضوعات،ولكن تلك المحاولات والجهود على تفاوتها عمقا وجدتها لم تحل تلك الأزمة لأسباب عديدة لعل من أبرزها :
أولا:  طول سيطرة المناهج الموروثة في سائر العلوم الإسلامية لنحو عشرة قرون بحيث صارت في الوعي السائد جزءا من الدين، وصار التجديد المطلوب في مناهج الرؤية لاختلاف الأعصار والتحديات، يعتبر مساسا بالدين، ويواجه بمقاومة كبيرة باعتباره خروجا على المألوف.
ثانيا: التراث الهائل الذي خلفه الأقدمون في كل علم؛ بحيث استعصى على القراءات النقدية الشاملة، وأثار ويثير بين المتخصصين إحساسا بالقصور، وعدم القدرة على الاستيعاب مقدمة للمراجعة والنقد.
ثالثا : اختلال الانتظام الكلاسيكي الذي كان سائدا في المرجعيات والمؤسسات التعليمية؛ وهو جزء من الاختلال الحاصل بين الديني والمدني في المؤسسات والتخصصات العلمية والعملية.
رابعاً: تصدر المستشرقين وعلماء الدراسات الإسلامية من الغربيين في عدة مجالات نظرية وتطبيقية؛ بحيث صارت دراساتهم ومناهجهم التأريخية والنقدية نموذجا يصعب التشكيك فيه أو الخروج عليه أو مجاوزته من الباحثين والدارسين المعاصرين من المسلمين، والذين لا يمتلكون من أدوات البحث والتحقيق العلمي له إلا تلك المنتجة أصالة وطبيعة وتعبيراً عن قيم الغرب المسيحي والوثني الملحد فاللغة والمناهج كلها ليست بريئة وإنما تحمل وتعبير عن معتقد وقيم أصحابها؟ .
خامساً: ظهور حركات إسلامية ذات أبعاد جماهيرية، أقبلت على تسييس علوم التقليد واستخدامها في مشروعاتها العامة تحت اسم التجديد في المحافظة على القديم ونفي توفر شروط ومقومات بل وحتى دواعي فتح باب الاجتهاد.
سادساً: ظهور حاجات ومطالب ملحاحة، أفضت إلى سيطرة المسائل العملية، والتهيب من الإشكاليات النظرية؛ بل والمسارعة إلى اتهامها مما غيب التفكير المستقبلي والفقه الحضاري الحي والمتفاعل مع دورة الحياة؟.
والمثال الحاضر هنا فكرياً على مدى قوة ونفوذ التأزم النظري والمنهجي في الرؤية أو الفكرة وفي التطبيق، يتمثل في سيطرة إشكالية أو قضية العقل والنقل في علم الكلام وفي الأصول، وسيطرة المنهج القياسي والشكلانية المنطقية في أصول الفقه وقواعد فقه الفروع، والبناء المنطقي في علوم الكلام، والتأويل اللغوي في التفسير وعلوم القرآن، والذوقية البحتة في التصوف؟!.
وعلى سبيل المثال لا الحصر أيضا، فإن جزءا كبيرا من البحوث الكلامية قام على علم الطبيعة الأرسطي في قضية الجوهر والعرض، وعلى علم الفلك الكلاسيكي في مسائل الزمان والمكان.
أما علوم الحديث فتحولت في ذروة تطورها في المرحلة الكلاسيكية إلى علوم تصنيفية لا ابداع ولا حيوية في دراستها وتدريسها وتوقفت عند ذلك التقسيم التجريدي، وقد أدرك العلماء الكبار، وفي وقت مبكر نسبيا، أن العلوم الإسلامية صارت مناهجها وبرامجها وإشكالياتها  قيدا على تطورها، وممن أدرك ذلك على سبيل المثال إمام الحرمين الجو يني في أصول الفقه، وفي السياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية. وأدرك ذلك ابن عقيل الحنبلي في أصول الفقه وأدلة التشريع، وأدرك ذلك  شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة العقل والنقل، واجتراح علم كلام عقلي، وأدرك ذلك عز الدين بن عبد السلام والقرافي والشاطبي في علائق الأصول بفقه المقاصد والمصالح، وأدرك ذلك الشنقيطي محمد الأمين"آبه" في سيطرة المنطق الأرسطي على علم الأصول وما أعقب ذلك من سيطرة أسلوب وروح الفكر الإغريقي على مناهج وأساليب فقهاء علم الأصول؟.
لكن هؤلاء جميعا ما استطاعوا زحزحة تلك المقولات، لاستنادها إلى الشكلانيات اللغوية والمنطقية، كما لم يستطع ابن خلدون من قبل زحزحة المقولات الكلامية، فتحول نقده إلى غضب عندما قال إنه علم غير مفيد!
إن ذلك الخطف وتلك الصعوبات التي أقلقت المتميزين في الأزمنة القديمة، شهدت مثائل مضاعفة لها في الأزمنة الحديثة؛ وكانت الكلمة المفتاحية للتعبير عن التأزم هي: الخروج على التقليد، وفتح باب الاجتهاد الذي يتبناه ما اصطلح على تسميته بفقهاء الصحوة الإسلامية المعاصرين، الذين أسسوا لمنهج إبطال الحجج القائلة بإبقاء القديم على قدمه، وفتح باب الاجتهاد من جديد ثم محاولة توسيع الدائرة بربط القواعد الأصولية واللغوية بمقاصد الشريعة والاستجابة لواقع الحياة واحتياجات الناس؟.
وهكذا أدت الحاجات العلمية إلى المضي في فقه الفروع وفتاويه وتفريعاته، والمراوحة بين القواعد الفقهية ذات الطابع القياسي والأخرى المقاصدية، وما جرى في الفقه والأصول وعليهما، جرى أكثر منه في مجال علم الكلام.
وهكذا فقد ضربت الإصلاحية والسلفية "علم الكلام" ضربات موجعة وقاسية، مبررة علميا وعمليا وإلى حد بعيد، وإن أفضى ذلك إلى إهمال البحوث النظرية في الدين إما تجنبا للجدل في العقائد أو لأن الحاجات العملية لا تتطلبه أو لا تحتاج إليه؟!.
والذين أدركوا ذلك أقبلوا على ما سموه"علم الكلام الجديد"وهم يعنون به الموضوعات والإشكاليات التي طرحتها الأزمنة الحديثة، ورغم أن العلم الجديد هذا ما وصل إلى مآل، لأنه ما استطاع الحصول على"تأصيل" له، كما لم يستطع إقناع المختصين بالإقبال عليه، والطريف علمياً أن"التأصيل" ما كان أو ما صار هما رئيسيا لدى الفقهاء والمتكلمين المسلمين المحدثين وحسب؛ بل كان أيضا هما رئيسيا عند بعض فقهاء عهود الانحطاط والتقليد كما يسمى وقبل ظهور أزمة العلوم الإسلامية والمفاهيم الجديدة للتأصيل الذي يعنى العودة للنص القرآني من دون توسيط أي من المفسرين القدامى أو المحدثين!!.
وهي جهود كلها منصبة وهادفة للخروج بمنظور علاجي نافع يعد انطلاقة مقبولة للعودة إلى الانتماء والتطبيق للمعنى الإسلامي الأصيل لتصحيح ذلك الكم الهائل من المفاهيم الخاطئة التي أصابت عملياً وثقافيا تعبر عن نمط التدين مما أدى إلى انحراف الفرد والمجتمع، فالتوكل أصبح تواكلاً، والإيمان بالقدر أصبح عجزاً وقعوداً عن العمل، والزهد أصبح خمولاً وقعوداً عن العمل، والعبادة رهبنة وانقطاع عن الحياة، وذكر الله- سبحانه وتعالى- أصبح تمتمات وهمهمات وأقوال بلا أفعال يضاف لهذا نوازل أو معضلات تدبير المال والاقتصاد فطوال تاريخ التراث لم يواجه الفقه الإسلامي تحدياً كالذي يواجهه اليوم أمام أسواق المال، وأعمال المصارف، وأنماط التمويل، ومشتقات الائتمان، وأنظمة النقد، وصيغ الاستثمار ونحوها من أشكال الحداثة الاقتصادية المعقدة والتي تتطلب فقهاً جديداً .
ولقد شاع بين كثير من الباحثين المعاصرين استعمال مصطلح (النوازل) في التعبير عن هذه المتغيرات والمستجدات.
وكما يقول فقهاء الاختصاص في الفقه والاقتصاد فإن إسقاط مصطلح النوازل على هذه الحالة الجديدة يعتبر توظيفاً غير دقيق، ذلك أنه لا يعكس حجم وطبيعة هذه المعطيات الجديدة فالأفق الدلالي لمصطلح النوازل يوحي بمجرد وقائع حادثة تقفز بين فينة وأخرى على هوامش الكتلة الفقهية الفروعية الراسخة والمستقرة، كما هو المعهود في تاريخ التراث الإسلامي المديد.
أما في واقع اليوم فالشأن قد اختلف تماماً، ذلك أننا لسنا أمام مجموعة فروع حادثة تزور طاولة الفقيه غالباً بقدر ما إننا أمام منظومة اقتصادية جديدة ذات منتجات متدفقة، وتبدلات متسارعة، وتحولات محمومة، وعلاقات مركبة بحيث أصبح الجديد هو الأصل والتقليدي هو الاستثناء.
ومهما شعر المتابع بتعقيد الصورة الاقتصادية المعاصرة في مقابل أزمة (الهدر الفقهي) في البرامج التقليدية للعلوم الشرعية، فإنه لا يمكن أن يتجاهل جهود أولئك الرواد من الفقهاء المعاصرين الذين أصروا على خوض غمار هذه المعطيات الجديدة، والاجتهاد في محاولة تقديم أدق تصور شرعي يحقق المراد الإلهي، عبر المشاركة الجادة والمتواصلة في ندوات المصر فية الإسلامية، والمجامع الفقهية، واللجان الشرعية لأعمال المصارف، والمجلات العلمية المتخصصة، والأطروحات الفقهية، والرسائل الأكاديمية المتميزة، وغيرها من القنوات المعنية بالمشكلات الفعلية في حياة المجتمع المسلم .
فإلى أولئك وحدهم يعود الفضل الأساسي بعد الله- في تنمية فقه المعاملات المالية، والدأب على تطويره إلا أن التحدي مازال أقوى ويشكل الامتحان الحقيقي والجدي لفقهاء العصر ودعاة التجديد والاجتهاد لجعل الناس تعتصم بأحكام الدين وتضبط مفاصل الدورة الاقتصادية ومفردات التنمية بأحكام الدين ؟.

5. أبريل 2016 - 9:15

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا