بعد الانقطاع إلى كهوف و محاريب الرومانسية السياسية في الثمانينات، و بعد خوض مغامرات صغيرة ذات عمر قصير في بعض أحزاب المعارضة في التسعينيات أدركت – و منذ أزيد من العقد - أنني بعد اكتساب المناعة من التصوف و الغرام السياسيين، مصاب بعجز مزمن عن الانضباط الحزبي.
لكنني بالمقابل – و رغم مراودة النفس غير ما مرة بدخول حانات
و بيوت قمار و بورصات المتاجرة السياسية – زهدت في ذلك و حفظت للقلب و الإرادة إخلاصهما و صدقهما "و ما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء". و دون حشو أو خروج عن الموضوع أبوح لكم بأنني بعد – التحرر مما سميته التصوف السياسي و ما يرتبط به من تعلق بالظاهر في القول و الفعل حتى لا أقول بالتملق و التظاهر – أدركت أن الجوهري في السلوك هو تصحيح الإرادة و القصد، و قاسمت مائة بالمائة الإمام الغزالي في خلاصة رحلة الشك في "المنقذ من الضلال" و القائلة بأن "الصوفية هم أهل الحق". و توصلت إلى أن التركيز على الإرادة الخيرة - بلغة الفيلسوف الألماني "كانط" - و تصحيح القصد و إصلاح الباطن و البعد عن الرياء – بلغة الصوفية – نحتاج إليه في المبادرات و الأعمال العامة و الجماعية ربما أكثر مما نحتاج إليه في أعمال الذكر و العبادة ذات الطبيعة الانفرادية.
موقع واحد من تلك المواقع التي تعودت العامة أن تخص و تشرف بها من تسميهم المثقفين و الشعراء و الكتاب و الفلاسفة و العلماء، و هو خيار الحياد السلبي تجاه الشأن العام و اعتزال السياسة، لم و لن أقبل يوما أن يكون موقعي أو يكون تشريفي. و ريثما تتاح الفرصة في مناسبات أخرى للبرهنة على أن عصر احتكار السياسة من طرف الأحزاب السياسية قد ولى، سأكتفي بالقول هنا إنني لم أقتنع يوما بذلك الفكر و تلك الثقافة السجينة في قاعات الدرس و رفوف الكتب. فكر و ثقافة هي أرقام صفرية في مسار الحياة اليومية للناس، إذ أن هموم تلك الحياة المعيشة تغيب بالكامل في السطور و فيما بين السطور و في المنطوق كما في المفهوم في ذلك الفكر و تلك الثقافة.
أما في التحليل الذي نتبناه فإن الفكر و الفلسفة بقدر ما هي مطالبة بتحقيق الكلية و العموم و التجرد و التجريد بقدر ما هي مطالبة بالبقاء على صلة مباشرة أو غير مباشرة بالحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية المعيشة للناس. و بعبارة أخرى فإن الفكر ملزم دوما بنوع ما من الالتزام السياسي و الاجتماعي تجاه مطالب الإصلاح و التنمية و السلم. و انطلاقا من ذلك لم أغب عن التصويت في أي استحقاق انتخابي ولم أصوت يوما بالحياد منذ العام 1986.
و نرى أن هذا "الالتزام السياسي" الواجب على المثقفين، يدور ما بين "فرض الكفاية" و "فرض العين"، حسب الظروف و الأحوال المتغيرة. و هو يغدو في بعض المنعطفات التاريخية الخاصة فريضة متعينة على الجميع دون أي استثناء. و من تلك المنعطفات التاريخية بامتياز هذا الذي نعيشه و تعيشه معنا القرية الكونية.
إنه منعطف يتميز باضطلاع السياسيين و الموظفين في مختلف حكومات العالم بمسؤوليات و مهمات ذات طبيعة كونية تمس حياة كل واحد من سكان الكوكب بغض النظر عن هويته و انتمائه، شملت النظم المصرفية و النمو السكاني و التجارة و الأمن قبل أن تتمدد إلى البيئة و المناخ. و إذا كانت قمة الأرض في البرازيل عام 1994 و قمة المناخ في فرنسا نهاية العام 2015 قد أنذرت بكوارث بيئية و مناخية تهدد الجميع و طالبت الجميع بالعمل على مواجهتها، فإن ثمة كوارث اجتماعية و سياسية أخطر من الأولى قضت على أسس التعايش السلمي و الاستقرار المجتمعي للعدد الأكبر من دول العالم، و على رأسها الإرهاب و التطرف و رفض القبول بالآخر و الحوار معه. و في مواجهة ظروف كهذه يعتبر موقف الحياد و خيار "الخويصة" استسلاما "جبريا" للحرب الأهلية المفتوحة و العنف الطائفي و العرقي الأعمى و الأفق الاقتصادي و التنموي المسدود.
و ضمن هذا السياق وجدت نفسي – بعد سنوات من البعد عن ساحة الكتابة و النشر – غير قادر على كبح النفس عن المشاركة في الحوار الدائر في الأسابيع الأخيرة حول "المأمورية الثالثة المحتملة" للرئيس محمد ولد عبد العزيز. لقد وجدت السؤال من الأصالة و الحساسية و الجوهرية في رسم مصير بلدي و مستقبله في لحظة مفصلية من تاريخه بحيث لا يمكنني تجاهله.
زد على ذلك أننا تابعنا طيلة السنوات الماضية المحاولات الجارية لتنظيم حوارات وطنية بمشاركة مختلف أطياف الساحة السياسية بغية التوصل إلى تفاهمات أو توافق وطني، دون جدوى. و لعل المحاولات المتعثرة في هذا الاتجاه – خلال الشهور الفارطة – و ما تميزت به أخيرا من إعلان "المنتدى الوطني للديمقراطية" – أكبر تجمع لقوى المعارضة - عن وضع حد لكل مبادرات الحوار لحين اعتذار وزراء الحكومة الذين فتحوا المجال للمأمورية الثالثة عما ورد في هذا المعنى ضمن تصريحاتهم أمام النواب و أمام الصحافة، ما يؤكد عدم توفر الأرضية الضرورية لانطلاق و نجاح هذا الحوار السياسي، وصولا إلى التوافق الوطني المنتظر. و هذه الوضعية تفرض في نظرنا دخول المجتمع المدني و الكتاب و الصحفيين على الخط للمساهمة بحوار الأفكار و الأقلام عبر الصحافة الالكترونية و الإعلام السمعي البصري و الفضاءات الخاصة بمراكز الدراسات و تنظيمات المجتمع المدني.
و ضمن هذا الإطار المختلف عن الخنادق السياسية و المفتوح أمام الجميع أود اليوم التقدم بمداخلة تتبنى أطروحة محددة، و تحترم في ذات الوقت لكل أطروحته. و إذ أعبر عن تحية تقدير خاصة لمجموعة الكتاب التي لمعت في السنوات الأخيرة على مواقع الانترنت و شبكات التواصل الاجتماعي، و قدمت بخصوص الإشكالات السياسية الكبرى للبلد كتابات رصينة ذات أساليب نثرية إبداعية، فإنني أعبر عن الاشمئزاز التام لما تميزت به بعض تلك الكتابات من لهجة تجريحية و استهداف شخصي، لا تليق بكاتب واثق من فكره و من قدرة كتابته و أطروحاته على الحسم في دائرة الإقناع، قدر ما تليق بالملاكمين و الدهماء ممن يعوضون ضعف عضلات الفكر بعضلات الجسد و الشتائم.
و على هذا الطريق و استلهاما لما سبق، أعلن اليوم مراجعة جوهرية فيما تبنيته من مواقف في المجال الخاص بهذه الإشكالية. لقد خلصت في ضوء تجارب المسار الديمقراطي التعددي في بلادنا منذ العام 1991، و تجارب التغييرات الديمقراطية في إفريقيا و تجارب ما بعد ثورات الربيع العربي، و في ضوء ما نراه عيانا من مخاطر استثنائية تتهدد وحدة و أمن و استقرار بلدنا، إلى تبني خيار الواقعية و "البرغماتية" السياسية القاضي بمنح الأولوية للتنمية و السلم على الشكل الفقهي الدستوري الجامد للتناوب، ضمن تحليل إستراتيجي يستند إلى ترتيب الأولويات داخل العقل السياسي الذي نفكر به.
و تنطلق الخلاصة المذكورة من جملة مستندات نكتفي في هذا المقال بالإشارة الإجمالية إلى بعضها، تاركين العرض التفصيلي لمناسبات أخرى. و تتوزع هذه المستندات إلى مجالين رئيسيين :
1 – المجال الخاص بالمتغير الخارجي : و بخصوصه نقول إن المسار الديمقراطي التعددي في موريتانيا لم ينطلق بالأساس من إرادة جماهيرية داخلية، تظاهرت و ضغطت على النظام الحاكم عام 1991 و أجبرته على اعتماد الوثيقة الدستورية، و إنما هو مسار ديمقراطي أطلقه النظام بإملاء فرنسي و غربي، و بتحالف مع القوى القبلية و العسكرية التقليدية التي كانت المحرك الرئيس لطوابير المصوتين في مكاتب الاقتراع.
و إذا كانت رسالة المستعمر السابق في "قمة لابول" المكتوبة بالحبر على الورق قد حملت إلينا "المولود السعيد" للديمقراطية الدستورية التعددية، فإن الرسائل المكتوبة على الأرض بالجثث و الدماء و الفقر و المرض و القادمة إلينا هذه الأيام من "تعز" و "حلب" و "الفلوجة" و "القاهرة" و "طرابلس"، بعد مثيلاتها التي جاءتنا من مالي و ساحل العاج و بورندي، لا تعد بثورات ديمقراطية حبلى بالحريات و التنمية و التقدم بل ترسل عواصف محملة "ببراميل" الدمار و الموت و الأفق المسدود، الذي لا يترك لك من مهرب سوى ركوب الأمواج نحو المجهول.
فعلى أي الرسالتين القادمتين من الخارج علينا أن نركز؟ تلك المكتوبة بلغة الحقوقيين و أساتذة القانون الدستوري ذات البنية المنطقية المميزة و التماسك ألبرهاني و الإقناع الفكري العالي المستوى، أم تلك المعروضة بالصوت و الصورة على مدار الساعة في التلفزيون و مواقع الانترنت، و المخيبة لكل آمال التنمية و السلم والحرية؟
أعتقد أن المنصف هو اختيار المنطقة البرزخية ما بين الاثنين، و حماية الاستقرار و السلم و التنمية في إطار من احترام الشكليات الدستورية و القانونية.
2 – البعد الخاص بالعلاقة مابين الإطار القانوني الدستوري المجرد و ما بين الممارسة السياسية العملية : و هذا هو الإطار الذي يتنزل فيه الجدل الدائر هذه الأيام حول الدستور و ما إذا كان مقدسا أم لا، و ما إذا كان من الجائز اعتماد دستور جديد أو تعديل المواد الخاصة بالمأمورية الثالثة. و هو الإطار الذي تتنزل فيه كذلك مسألة توازنات القوة الميدانية، و دور القبيلة و الثروة و الجيش و القضاء في تأمين القدرة السياسية للأطراف المختلفة. و هو الذي تتنزل فيه كذلك قضايا الفئات و الأعراق و الأقاليم كعوامل توتر و تهديد للاستقرار و عوامل للتحشيد الانتخابي.
و في هذا السياق نذكر بالطرح القديم الجديد الذي يستند إلى أن المجال السياسي محكوم قبل كل شيء آخر بتوازنات القوة. و القوة في المجال السياسي هي مزيج مجموعة كبيرة من أشكال القوة، ليست قوة السلاح إلا واحدة منها. و هذه القوة السياسية الأساسية للحسم هي التي يسميها "ابن خلدون" "العصبية"، و هي اليوم تأخذ أشكالا جديدة، من أهمها القوة المالية و الإعلامية و العسكرية. و قد ذهب ابن خلدون إلى حد القول بأن "الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم". فقل لي بربك إذا كان توازن القوة ضروريا للدعوة الدينية فكيف بالمشروع السياسي و الترشح للرئاسة و البرلمان.
و على صعيد مسألة القوة السياسية المشار إليها، يمكن القول إن التحالفات و التعاضدات السياسية و الاجتماعية و المالية و العسكرية يمكن أن تكون إيجابية و خيرة إذا أمنت التوحد في كيانها الداخلي و تبنت خيارات إيجابية تخدم المصالح العليا للبلد و للشعب، و قد تكون قوة مدمرة و شريرة إذا لم تنجح في تحقيق الوحدة المجتمعية أو فتحت الباب أمام عنف الشوارع و تشكيل الميليشيات المسلحة و تعدد الأيادي الحاملة للسلاح. و هناك خطر دائم في التحول من قوة إيجابية إلى قوة مدمرة و شريرة، بفعل المتغيرات الإستراتيجية الميدانية.
و عندما أحاول تنزيل هذا التحليل المجرد على واقعنا الحالي، يمكنني القول إن توازنات القوة المنظمة التي بإمكانها تأمين انتصارات سياسية إيجابية هي في جانب النظام. و لا يمكن افتراض أي تهديد جدي لهذه القوة سوى من خلال تمرد داخل المؤسسة العسكرية، و هو احتمال أصبح مستبعدا بالكامل من طرف أكثر الحالمين به، بالنظر إلى الفرص الكثيرة التي أتيحت لمثل ذلك الاحتمال دون أن يحدث، و بفعل تماسك التفاهم القائم بين النظام و القيادات العسكرية المسيطرة. و لم تعد توجد من قوة قادرة على التعبئة في مواجهة النظام سوى التحشيد الفئوي الذي بدأ يفقد بريقه في أوساط كوادر "لحراطين"، و هو ما تعكسه بوضوح نتيجة 8% التي حصل عليها زعيم "إيرا" في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
و في الجهة المقابلة، عرفت السنوات الأخيرة تسارع وتيرة الترهل السياسي لأحزاب المعارضة. و بعد أن وجهت دورات الانتخابات الرئاسية في حقبة ولد الطايع ضربة قوية للأحزاب الإيديولوجية التقليدية، حيث تراوحت نسبها ما بين 2% إلى 4%، فإن رئاسيات 2007 و 2009 هزت مصداقية المرشحين الأبرز للرئاسة في أوساط المعارضة، و لم تتمكن هذه القيادات التاريخية من خلق الشروط الكفيلة بظهور قيادات بديلة، و لا من مراجعة وضعيتها الإستراتيجية غير المواتية على نحو يضخ في أحزابها و تحالفاتها دماء مجتمعية جديدة.
و هذا الضعف في القوى المجتمعية الملتفة حول المعارضة هو الذي يضطر أطرافا منها إلى مغازلة الخطاب الحقوقي الفئوي و العرقي، و أحيانا أخرى الخطاب المدني الخاص بموضوع الأسعار و نحوها، و أحيانا أخرى المؤسسة العسكرية و الشركاء الدوليين.
و في ضوء الخلل البين في توازن القوة المذكور نعتقد أن على المعارضة أن تفتح عيونها جيدا على الواقع، و تتحرر من "الرومانسية الإيديولوجية" لمذاهب ثورية حملت برامج إصلاحية لمجتمعات أصبحت من الماضي، و تتحرر كذلك من "الجمود القانوني و الدستوري" الذي بدأ أساتذة القانون الدستوري في كليات الحقوق أنفسهم يتحررون منه. إن الوضع الإستراتيجي لقطبي النظام و المعارضة يفرض على الأخيرة القبول بأحد احتمالين:
الأول : القبول بالمشاركة في حوار وطني يفضي إلى توافق الطرفين حول إصلاحات دستورية تلبي مطالب الجميع. و التوجه بعد ذلك إلى انتخابات تشريعية و بلدية، تعيد للمعارضة حقها في التمثيل البرلماني و البلدي.و يفترض بمثل هذا التوجه أن يقود إلى مشاركة المعارضة و فقا لحجمها التمثيلي في الجمعية الوطنية في حكومة شراكة وطنية، تحضر للانتخابات الرئاسية في أجواء خالية من التصعيد و التوتر.
الثاني : القبول بحق النظام في تسيير المسار الانتخابي دون تشاور في ظل فشل الحوار السياسي، و الاكتفاء بالمعارضة من خلال صناديق الاقتراع و القنوات الشرعية و المفتوحة من قبل الحكومة.
و هذه الخيارات مطروحة و موجهة إلى تلك المعارضة التي تملك قدرا من الحكمة و المسؤولية و الحرص على تجنيب البلاد الويلات التي تعيشها بلدان أخرى بسبب التناوب السياسي المأزوم. و أتحدث عن المسؤولية و الحرص على المصلحة العليا للبلد إذ أن الجميع يعرف أن قوى المعارضة لا تتوفر على الدعم الجماهيري الكافي للحسم الثوري، و ليس لها من بديل في الحاضر سوى استغلال شعارات الفئة و العرق التي تهدد النسيج المجتمعي أكثر مما تهدد النظام. و خارجا عن ذلك لا توجد من آلية لدعم مشروع رفض برنامج الأغلبية في التغيير السياسي و الدستوري المحتمل سوى استجداء المؤسسة العسكرية أو التدخل الخارجي بالعقوبات و نحوه و هي كلها خيارات أنانية و سلبية.