أنها موريتانيا والتناقض، يقزم المثقف المتعلم فبدلا من أن يكون مهندسا ماهرا أو طبيبا شافيا أو اقتصاديا لامعا يصير بائع ماء أو سائق تكتك.
هذه هي السياسات المتوارثة عن الأنظمة المتعاقبة على هذا البلد فعقلية الساسة لا تتطور لا تأتي بالجديد أنما تظل عبر حركة التاريخ عبر حركة الزمن متقوقعة على أفكار بدائية سابقة
ورثتها عن أجيال متقدمة.
فبعض هؤلاء الساسة يصنف أنه من الجيل الأول المؤسس للدولة والبعض الآخر من الجيل الثاني المخضرم الذي لم يستطع أن يميز عبر أطروحاته الفكرية المتناقضة بين الدولة ككيان شامل وبين القرية الجزيئ وبين القبيلة (المرض) وبين المؤسسة الحكومية التي تحكمها ضوابط وقوانين تحفظ للجميع حقوقه دون تغابن.
فأغلبية المنتخبين ليست لديهم أبسط المقومات الثقافية و الفكرية التي تمكنهم من فهم و استيعاب المشاريع المعروضة عليهم تارة يلتزمون الصمت (لأن فاقد الشيء لا يعطيه) وتارة يحاكون محاولين مسايرة الركب مقلدين زملائهم الحاذقين فيتيهون في التفاصيل متناسين أنه (إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب).
إن العقلية التقليدية لدى هؤلاء الساسة ليست مبنية على ثقافة التشارك وقبول الآخر ولا على مقاييس دقيقة تضع المنتخب سواء كان رئيسا أو نائبا أو شيخا أو عمدة في المكان المناسب فهذا الطراز الرفيع من الساسة يبني عمله على أساس المجاملة لا يعتمد النقد البناء الهادف وسيلته في تقصي الحقائق و يطبق الحلول الجاهزة و المتجاوزة من طرف الدول على مجتمعه يعتمد في مقارباته السياسية على أسلوب التحليل بالقياس على مشاكل الدول الأخرى ولأنهم بكل بساطة عبر تاريخهم السياسي يرددون أنشودة الماء والكهرباء أنشودة الطرق المعبدة فعبر مسيرتهم العملية لا يفيدون ولا يستفيدون يعتمدون الحفظ و التكرار حتى فقدت الشعارات مضمونها فلا مجتمع مدني واعي لقضاياه ولا حكامة رشيدة أما نفاذ الخدمات إلى المواطن فهو حبر على ورق.
فمادام العقل الجمعي لهذه الأمة يدور حول حلقة مفرغة من مضمونها فلا إعلام راشد يضع النقاط على الحروف ويهدف إلى تنوير المتلقي لكي يكون أكثر تطلعا وفهما لما يدور في فلكه من تجاذبات سياسية وفكرية حتى يمكنه أن يميز وينتقي برامج طموحة هدفها تغيير واقعه السياسي والاجتماعي و الاقتصادي.
فذهنية الإطار الموريتاني ذهنية موجهة منذ عقود من الزمن تجعل من الأرشيف التقليدي (مرجعيتها لأبسط الأشياء كصياغة الخطابات) فلا طموح لخلق وسائل إنتاج متطورة تشكل قاطرة للاقتصاد الوطني فكيف يصدر الحديد والسمك خاما وغيرها من الموارد الاقتصادية دون التفكير في خلق قيمة إضافية لهذه الموارد فالصناعة والفلاحة هما شريان أي اقتصاد طموح يسعى منظروه إلى جعله اقتصادا منافسا هدفه خلق المزيد من فرص العمل و حتى كوسيلة ضغط داعمة لسياسات الدولة المعلنة التي تتطلب جلب مستثمرين دوليين لا يتحكمون في قراراتنا السيادية التي قد يسبب تخلخلها تصدعا في علاقاتنا مع الدول الأخرى مما يجعلنا دولة منحازة بدلا من أن نكون دولة حيادية حيادا ايجابيا لا سلبيا أو على الأقل أن نطبق في سياساتنا الخارجية قاعدة (لا ضرر ولا ضرار).
فأين إذا السياسات الرشيدة و الطموحة فينبغي استثمار الطاقة البشرية ولا ينبغي أن يربط أمل المواطن بكيلوغرام من السكر أو الأرز فالمثل يقول (لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطادها) فالساسة عندنا يصطادون في المياه العكرة فكيف نقترح الحلول لحل المشاكل المطروحة فعملية الإنتاج سواء كانت تعليم أو صحة أو سياسة أو اقتصادا تشكل دورة حيوية متواصلة فينبغي أن نعطي للمواطن حرية التفكير و الإبداع وإذا تم تقييدها بمشاريع قانونية فمعنى ذلك أنه تم تعطيل الفكر ونزع الثقة من المستهدفين بأي نوع من البرامج.
فالجدلية القائمة هي التناقض في خياراتنا فأغلبية الساسة لا يميزون الفصل بين السلطات ولا يطمحون حتى إلى إرساء فكرة التوازن بين السلطات فإذا تركزت السلطات في يد الرئيس تم إقصاء المشرع الذي يعتبر دوره استشاريا وغير ملزم للسلطة التنفيذية فما مصير الأدمغة المبدعة التي من المفروض أن تلعب الدور الأساسي لإرساء دولة القانون بعيدا عن البارغماتية السياسية التي يبحث أصحابها عن أكبر عدد من الأصوات وعن اكبر عدد من السماسرة الذين يتلاعبون بمقدرات الدولة أكثر من مما يطورونها فللأسف الشديد هذا هو التراث الأصيل المتوارث عن الساسة التقليديين الذين يعتبرون أنفسهم أكثر وطنية و أكثر أمانة على هذا البلد من أخوتهم في المواطنة.