" أيها الناس! توبوا إلى الله قبل أن تموتوا *وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا * وصلوا الذي بينكم وبين ربكم تسعدوا *وأكثروا الصدقة ترزقوا * ومروا بالمعروف تنصروا * وانهوا عن المنكر تخصبوا *
......أيها الناس! اتقوا الله فيما أمر* وانتهوا عما عنه نهى وزجر*.... يغفر الله لنا ولكم"
كلمات غير اعتيادية؛ اخترقت مسامع المصغين إلى الإذاعة الموريتانية، فاجتاحت قلوبهم وعقولهم، ذات زوالٍ من يوم حرٍّ قائظ، عام 1963 للميلاد...كلمات بوقع مميز؛ فهي لم تكن ألفاظا اعتيادية عابرة، تتلاشى، و"تموت حين تقال"؛ بل كانت فاصلة، جهورية، فصيحة، بليغة، مجوّدة، مسجّعة؛ تملأ الأفئدة رَغَباً ورَهَباً، وتُخرس الألسنَ إجلالا وهيبة، وتنقاد لها الرقاب، كأن الطير على الرؤوس!
كلمات بدأت بالحمد والثناء على الله، وانتهت بالاستغفار والتوبة إليه؛ وبين البداية والنهاية ناءت الكلمات بحمولة من الأمر والزجر، كانت بثقل الجبال. إنها كلمات أول خطبة جمعة، لأول إمام على مستوى وطني، في أول مسجد جامع، بنته أول دولة مستقلة في تاريخ هذه الربوع، في أول عاصمة اختيارية لها.!
كانت دائرة الانفعال الإيجابي بتلك الخطبة العجيبة هائلة، في مختلف الأوساط، وما فتئت دائرة الرضا تتوسع مع الزمن، كلما تتالت الخطب، وتنوعت موضوعاتها، وتجددت، وفرض حديثها، والحديث عنها، نفسه في كل حجاج علمي، بل وتسرب إلى كل المجالس والمدارس والدروس والأحاديث، واللقاءات، وحكايات السمر.
بعض متفقهة البادية، بمن فيهم علماء وقضاة يشار إليهم يومئذ بالبنان، حاولوا تسويق موقف الريبة، مما اعتبروه"بدعة" الجمعة، وقدموا كل ما طالته أيديهم من حجج وشبه، لثني من استقر بهم المقام في العاصمة الجديدة، من البداة السابقين، عن شهود تلك الصلاة. وأبرز ما ساقوه لتبرير موقف تخلفهم ذلك، كان الخلاف الجاري في متون القرون الوسطى وحواشيها، حول مجموعة من الاشتراطات التي تتحدث عنها تفاصيل المقررات المذهبية العتيقة، فاعتبروها غائبة، وبنوا على غيبتها بطلان تلك الصلاة.
من تلك التفاصيل الخلاف في عدد من تتقرى بهم قرية، وفي مفهوم التقري نفسه، وهل تشترط في وجوب الجمعة القدرة على الدفاع ورد العدوان؟ مهما كانت قوة المعتدي؟ وهل تعتبر إقامة الحدود الشرعية شرطا لها؟، وهل تلك الطائفة من الشروط هي شروط إيجاب أم شروط صحة؟ وهي خلافات تشبث بجانبها السلبي، يومئذ، عدد كثير من فقهاء البادية، يتقدمهم أشهر قضاة نواكشوط عند الاستقلال، القاضي الامام ولد الشريف رحمه الله، وفيهم القاطنون في القرى والتجمعات التي ودع أهلها الحل والترحال منذ أمد.
شبهة أخرى، ساقها بعض المشككين، لتبرير التخلف عن التجميع في نواكشوط، تمثلت في إشاعة هزلية، مؤداها أن الجامع الذي شيد بأمر من الرئيس المرحوم المختار ولد داداه، ووضع حجره الأساس بيده، وساهم العديد من الخيرين في الإنفاق عليه من مالهم الخاص، كان منهم المرحوم يعقوب ولد أبو مدين، الذي تواترت الأخبار بأنه باع قطيعا من البقر ليسدد تبرعه للمسجد؛ تقول الشبهة الهزاية إن المسجد كان هبة من فرنسا، ولأنه مسجد فهو وقف، وفي صحة الصلاة في وقف الكافر خلاف !! (أي والله... هكذا).
شبهة ثالثة، زعم من أوردها من أهل الريبة، أن الجامع الجديد الذي أقيمت فيه الجمعة، يفتقر إلى صفة "العتيق"، المطلوبة اشتراطا في الجامع. ومبنى الشبهة أنه كان في قرية نواكشوط القديمة، التي تشكلت حول المنهل السطحي القديم، قريبا من ثكنة "افرير جان" كان فيها مسجد صغير من الطين، يؤمه الناس للصلوات الخمس؛ فكان - في نظر المترددين- الأولى بالجمعة، إن كان ولا بد!!،
شبه متتالية متهافتة، غالب دوافعها البداوة والتقليد المطلق؛ وقد اجهها ورد عليها- بعلم- الإمام بداه، وبمساندة المستنيرين من الفقهاء، واصل جهاد الكلمة، مستهينا بكل العقبات، مواصلا طريقا مليئا بالأشواك، لا يخلو مع ذلك من بعض الورود النادرة، حتى بلغ هدفه، هدف التنوير والإصلاح الديني، وإقامة الصلاة من يوم الجمعة.