بعض قراء مسودات هذا الفضاء الافتراضي؛ من أهلنا الأقربين، أساء فهم إشارة إلى قاضي القضاة الإمام ولد الشريف، تغمده الله بواسع رحمته؛ في معرض حديث لي في مقال منشور، عن السياق الذي اكتنف أول نداء للصلاة من يوم الجمعة، في عاصمة الدولة الموريتانية الحديثة، في ستينيات القرن
الماضي، وهو سياق ميزه احتدام جدل فقهي استمر طويلا، قاد أحد طرفيه الإمام بداه ولد البوصيري، وكان القاضي الإمام ولد الشريف أبرز مرجعيات طرفه الثاني؛ مما يستدعي التوضيح، تصحيحا للفهم الخاطئ، ووضعا للحقيقة في نصابها!.
إن أمر الخلاف حول إقامة الجمعة، في العاصمة الموريتانية بعد قيام الدولة، لا غبار عليه من الناحية التاريخية؛ وهو على مستوى التأسيس الفقهي لم يكن يفتقر يومئذ إلى المبررات؛ فقد نبتت الدولة الموريتانية وعاصمتها، طفرة، بين المخاوف والهواجس والمطامع والشكوك؛ وفي ظل وجود مكثف، بل ومهيمن، أحيانا، لعناصر المستعمر المخالف في الدين، كانت ما تظال متحكمة في مجمل مفاصل الكيان الناشئ، بما في ذلك درجات القضاء العالي.
وفي غفلة من الزمن والناس، تردد صدى النداء للصلاة من يوم الجمعة، فجأة، بين مرتفعات وآكام وكثبان وسهول وفجاج سائبة مقفرة، لا عيش لسكانها غير الحلب والصر، ولا عهد لهم ببيوت الحجر والمدر، فلم يألفوا غير ظلال الشجر وخيم الوبر، محتمى من الحر والقر، وملجأ من الكر والفر؛ وقد خلت مناهجهم من درس الجمعة، منذ أمد، واعتبرها فقهاؤهم شعيرة من "ما استبد ببلاد نائية"؛ فكان من المنطقي جدا، أن ينظر مراجعهم بقدر من الريبة، إلى نازلة الجمعة التي حلت بساحتهم، دون استئذان.
ما يعرفه الجميع هو أن غالبية فقهاء بلاد السائبة، يومئذ، كانوا من رأي القاضي الإمام رحمه الله، المطابق لمسودات المتون والحواشي والطرر والمنظومات التي تشكل خلاصة ما بحوزة بادية المنكب البرزخي، من تراث متأخري المالكية السائد؛ لكن القاضي كان أبرز هم وأعلاهم صوتا، لمكانته العلمية، أولا، ثم لموقعه السامي في هرم السلطة القضائية في الدولة الناشئة، ثانيا؛ ومن ثم جاء ذكره في المقال المنشور دون غيره، كما ذكر الشيخ بداه، دون عيره أيضا ممن كانوا يؤازرونه ويقاسمونه رأيه في الموضوع.
وتجدر الإشارة هنا، توضيحا للتوضيح، إلى أن "البادية" ما كانت يوما، ولن تكون عيبا في المجتمع، وإنما كان الوصف بها تعبيرا عن حال سائدة، تباين حالَ الحواضر والمدن، في كثير من مفرداتها، وفي بعض أحكامها أيضا، ومنها وجوب الجمعة؛ ومن ثم لم يكن وصف فقهائنا في تلك المرحلة التاريخية، بمن فيهم الشيخ بداه نفسه، ومن صلى معه، ومن رفض ثم عاد فاقتنع بوجوب الجمعة لاحقا، ومن استمر على موقفه الرافض لها، رحمهم الله جميعا، لم يكن وصفهم بأنهم فقهاء البادية، مجانبا للحقيقة، أو تهوينا من شأنهم.
ثم إن الخلافات الفقهية هي سنة الله في الناس، ولم تكن قط عيبا، وما كانت صلاة الجمعة وحدها محور الخلافات يومئذ، وعلى سبيل المثال لا الحصر، تباينت الآراء الفقهية حول مجمل المستجدات، واحتدم الجدل الذي سجل فيه القاضي حضورا بارزا، حول القبض والسدل، وحول القراءة خلف الإمام، والجهر بالبسملة في الفريضة، ودعاء الاستفتاح؛ والصلاة في الطائرة وانعكاساتها على صحة الحج...
ولقد كان هناك من فقهاء المرحلة من أفتى بمنع الوظائف الحكومية، ومن اعتبر الرواتب مالا حراما، ومن منع اقتناء الإذاعة، أو الاستماع إليها، ومن منع الانتساب إلى الأحزاب والمنظمات، ومن منع سكنى العاصمة الجديدة، ومن منع خلع النساء السواد... والقائمة تطول، ولكل رأي فيها مسوغاته وحججه المتكئة على التراث الفقهي السائد بين أهل العلم، وفي مقدمتهم يومئذ بلا شك، الإمام والقاضي؛ ولقد كانت سجالات تلك المرحلة في الواقع، روافد حقيقية للوعي الديني والفكري، وأسسا وعمادا للنهضة الثقافية والمعرفية التي أنارت واقع أجيال الدولة المتعاقبة.
عذرا إلى من أساء فهم ما سطرنا، فأساء إلينا باتهامنا بالإساءة إلى طود شامخ من مراجعنا؛ وبراءة إلى الله من التطاول على أي من مصابيح ذلك الديجور، الذين أضاءوا طريق الكيان الناشئ، ونهجوا السبيل لأجياله الحاضرة واللاحقة؛ وفي مقدمتهم إمام الأئمة بداه ولد البوصيري، وقاضي القضاة الإمام ولد الشريف، تغمدهما الله بواسع رحمته، وتقبل معهم كل من قدم إليه ممن كانوا جميعا منبع إلهام، ومصدر فخر واعتزاز لكل الشعب الموريتاني.