من الصعب جدا على إنسان بسيط مثلي إدلاء رأيه في أمور كبيرة تتعلق بالدين وبالاختلاف الفقهي والرؤى والإيديولوجيات المتباينة والتي تنطلق من مبررات شرعية وأصول ثابتة في الدين لا يختلف عليها اثنين رغم ما في مظاهر هذه الإيديولوجيات من اختلاف وتباين ، لكن الواقع الذي أفرزته هذه التناقضات
وما شاكلَها من مواقف سياسية تدعم طرف على طرف وتجرم طرف بطرف يحتّم على الناظر البسيط مثلي أن يساهم ولو بكلمة من خلال إبداء رأي بسيط حول مسألة تكاد تعصف مضامين الخلاف من خلالها بالأمة كلها .
اعتقد أن الإشكالية الكبيرة التي يعاني منها المسلمون تتمثل في علاقة الفقهاء بالسلطة ، هل ينبغي ان يكون الفقيه أو العالم أو المتدين أو أي أحد غيور على دينه في عداء دائم ومواجهة مع السلطة ؟ أم ينبغي أن يكون مخفضا الجناح لها بغض النظر عن ما إذا كان نصوحا أمينا لها أم يسعى من خلال خفض جناحه لها إلى تحقيق مصالحه الشخصية ؟
وليس هذا هو الإشكال الذي عانى منه العالم الإسلامي فقط بمرور مختلفة الأزمنة التاريخية ، بل لا بد للناظر أو بالأحرى صاحب وجهة النظر حول هذا الموضوع من التطرق إلى أساس هذه الأزمة ، أو بالأحرى تجليات الاختلاف والخلاف في الفكر أو الثقافة الإسلامية العربية .
فمعروف أن أولى تجليات الخلاف في الفكر والثقافة الإسلامية كان نتاجا لمقتل عثمان بن عفان رضيّ الله عنه وما نشب بعد ذلك من خلاف تجلى في مواقع ومعارك دامية بالإضافة إلى انشقاقات كبيرة في صفوف المسلمين هتكت بالوحدة وخلّفت تيارات متباينة تنتمي إلى نفس الفضاء العقدي رغم ما نشب بينها من خلاف كان على أساس الإمامة ومن يستحق أن يتولى أمور المسلمين قبل أن يتعدى ذلك إلى خلاف إيديولوجي ذا طابع أحدّ وأشدّ من الأول أودى ببعض الجماعات أو بالأحرى بإحداهم إلى الشذوذ والغلو ، رغم ما ظهر معها في بداية الأزمة من دفاع عن الحق ورغم ما بنت عليه دعوتها في البداية من مسلمات ثابتة.
هذا الوضع المتأزم والذي كاد يؤدي بالأمة جمعا ، ويضيّعُ مكتسباتها الحديثة أنذاك أفرز مرحلة أخرى كانت بالقياس مع ماضي الأمة الإسلامية وما أُسس في دولة الرسول من مبادئ العدل والمساواة أسوء نموذج قد يعرفه العالم الإسلامي بعد الرسول ، وكان هو الحل الوحيد طبعا الذي من خلاله يمكن تجاوز تلك الأزمة العاتية وإعادة تكوين الوحدة الإسلامية المفتتة من جديد ، فظهرت دولة بني أمية ذات الطابع الملكي والقبلي إن صح التعبير ، فكانت الفكرة التي تعود إلى الوراء إلى عصر ما قبل الرسول لتحي القبيلة من جديد ويتم على ذلك الأساس الاعتماد عليها كوحدة سياسية أساسية في تَشكُلِ البناء السياسي العربي الإسلامي هي المخرج الوحيد الذي يضمن الاستمرار والبناء بالإضافة إلى المحافظة على المكتسبات ومواصلة الفتوحات الإسلامية ،وطبعا كان على الدولة الجديدة والتي تعود جذورها إلى ولاية معاوية بن أبي سفيان أن تدخل في حروب طويلة مع مختلف المناوئين السياسيين وأن تحسم الأمر معهم قبل أي شيء داخلي وتعيد السيطرة على كل الأرضي الإسلامية ، وهو ما حدث بالفعل بعد سقوط دولة الزبيريين في الحجاز والعراق وكسر دولة الخوارج ، لكن التعاطي مع الواقع الجديد كان يطلب شدة جديدة لتنتصر الدولة السياسية على كل اعتبار دون أن تخرج من دائرة مقصدها الرئيس والذي تتخذه دولة المسلمين شعارا عاما لها وهو حفظ الدين والسعيّ في نشر كلمة الله ....بل إن الأمر كان يتعلق بتقوية الخطاب السياسي على حساب الخطاب الديني المعبئ للشعوب ، فحدث في عصر دولة بني أمية ما يشبه أو ما هو بالفعل "الاستبداد المطلق" تمثل في قتل العلماء والفقهاء وسجن كل المناوئين لبني أمية والتنكيل بهم ،على العلم حسب معظم الباحثين أن أصوات الفقهاء والعلماء المناوئة لنموذج الدولة الجديد كان هو أول أشكال المعارضة في الفكر الإسلامي ، وأطلقت يد الحجاج رحمه الله لذلك ، فسعى إلى تثبيت أركان الدولة الأموية بكل الطرق وهو ما حدث بالفعل .
وتجاوزا لمختلف المرحل التي مر بها الفكر السياسي الإسلامي على تعددها وكثرتها ، إلى أزمة الواقع أو واقع الأزمة الحالية ، فإنه لا يمكن رد ما تعيشه الأمة من خلاف واختلاف فكري إلى الواقع بل لكل فكرة جذورها التاريخية الخاصة وثوابتها الموضوعية المشرعنة من خلال فهم أصحابها للدين .
فمرورا بما يسمى خلاف السنة والشيعة الفكري بغض النظر عن ما في مضمون الفكر الشيعي من غلو وبدعٍ تثبت الدعاوى ضدها إلى أن واقع الدول الإقليمية وتجاوبا مع رغبة الاستخبارات الغربية من خلال الوعي أو بدونه ، يساهم بشكل كبير في تأزم الواقع الإسلامي الحالي ، بالإضافة إلى مشاكل السنة فيما بينها وما يظهر فيها من فرق وجماعات ذات أصول ومشارب متقاربة من حيث المضمون .
إن الفكرة التي أريد أن أصل إليها من خلال سرد الواقع والاعتراف بفكرة التباين الشكلي أو الضمني هو الوعي بالوحدة الإسلامية فوق أي اعتبار آخر موضوعي او غير موضوعي ، فمثلا ما هو المتناقض في الفكر الإخوان المسلمين مع الفكر السلفي المعتدل أو غير المعتدل ؟ ، طبيعي جدا ان الأصول لا خلاف فيها وهذه فكرة يلتقي فيها الطرفين ، لكن تجاوز تلك الأصول والحكم باجتهادات لاحقة فكرة أيضا حسنة والاستماع لها والاستئناس بمضمونها يفيد أكثر مما يشوه ، وبالنظر إلا الجماعات المتطرفة وعن السياق الذي نشأت فيه هل يمكن اعتبار الجماعات المتطرفة أكثر من كونها جماعات تعبر عن مكبوتات ميتة بفعل الهيمنة الغربية داخل الجسم الإسلامي بالنظر طبعا إلى الفكرة العضوية التي وردت في الحديث الشريف ؟.
وبالطبع هذا ما نعتقده ، كون الجماعات المتطرفة التي تعمل داخل الجسم الإسلامي تعبر عن مكبوتات صامتة في الجسم الإسلامي ، وأن الخلاف السني الشيعي يعبأ من طرف المخابرات الغربية أكثر مما هو واقع بالفعل في الواقع ، وأنه لا يمكن حسب أي منطق تجزئة العقيدة الإسلامية إلى أنواع من حيث يصبح هناك إسلام متطرف وآخر معتدل ، أي أن التغاضي والتعامي عن سياق الوحدة الإسلامية وتجزئتها حسب الأهواء والخلافات السياسية هي جوهر الأزمة الإسلامية اليوم.
إن السياق التي تتم فيه مناقشة المشاكل الإسلامية الإسلامية سياق يحفز على ضرورة التشظي والتناحر بدل التآخي والتراحم ، فما المانع من ان يكون فقيه أو عالم سندا للسلطان وآخر معارض له في إطار الصالح العام ؟ ألا يصب كل ذلك في حوض إناء المصلحة العامة ؟.
قلة وعي الحكومات بهذه المسلمة أو تعاطيها بشكل إيجابي معها هي ما تعمق من الانقسامات ، فبدل أن تصدر حكومة أي بلد بتجريم فلان أو ترهيبه كان أحرى بها أن تستوعبه وتحتويه في إطار المصلحة العامة وتستطيع الحكومات طبقا لذلك تعديل أي الآراء أرجح حسب متطلبات ضرورة الوقت وحسب ما تقتضيه المصلحة العامة .