تتسع الهوة يوما بعد يوم، ونظاما بعد نظام، بين العبيد وأبناء العبيد )لحراطين( من جهة، والسادة وأبناء السادة )البيظان( من جهة أخرى. داخل الجزء الناطق ب"الحسانية" الذي يشكل أغلبية في المجتمع الموريتاني المتعدد الثقافات والأعراق. تتسع الهوة إذا، على مستويات متعددة يقع على رأسها المستوييان الإقتصادي والتعليمي.
اتساع لا يتحول فيه العبد من العبودية إلا إلى قاع الإقصاء والتهميش والتبعية والإزدراء، وأخيرا ظهرت حالات من العنصرية، ولا يتحول فيه السيد إلا من متحكم في رقاب عدد من العبيد إلى متحكم في مصير بلاد بكاملها، أو مؤسسة كبيرة من مؤسساتها، بنفس المنطق الإستعبادي، دون أن يضع في الحسبان أن موقع العبد معرفيا ونضاليا – على الأقل- تحول بفعل عوامل عديدة على رأسها الصدفة والجفاف، ومؤخرا تطورُ وسائل التواصل الإجتماعي، وتعددُ أساليب الإحتجاج ومنافذ نشر الوعي، فلم يعد احتكار المعلومة أو تكميم الأفواه ممكنا.
.
هما معا ضحايا الجهل والتجهيل، أما الأول فكان ضحيتُه السيد، وأما الثاني فكان ضحيتُه العبد.
.
يُنشب التفقير في الحرطاني ، المحروم من فرص العمل والتكوين والدمج وهو القادم من ويلات العبودية إلى جحيم الإزدراء والتهميش، أظافره، فيكون ذلك حاجزا بينه وبين تكاليف التعليم وما يتطلبه من وقت وجهد هو أحوج إليهما في معركة تحصيل لقمة العيش، يتساوى في ذلك الكبير والصغير والذكر والأنثى، تجدهم جميعا أمام المخابز أو عند ملتقيات الطرق يبيعون "النعناع" أو يتسولون أو يحرسون الأسواق والسيارات وتجد نساءهم ساهرات يبعن الكسكس على قارعة الطريق، و تلتقي بهم عند الميناء ينزلون حمولات الباخرات على رؤوسهم أو تجدهن يعملن خادمات في البيوت أوقاصرات يعملن في مناغات الأطفال وإلهائهم وتربيتهم "سكاتات". لا وقت لديهم ولا مال للتعليم وقد لا يكون متاحا لهم في "آدوابة" حيث يسكنون دون غيرهم من فئات المجتمع.
في هذه المواضع وما هو على شاكلتها من الأعمال الشاقة قليلة المردود، تجدهم بكثرة في انواكشوط وانواذيبو بعد أن عضهم الجوع والعطش ولفظتهم الأرياف والبوادي.
وحين ترومهم بين الضباط أو الوزراء أو العمد أو رجال الأعمال فإنك لا تظفر بهم إلا في مرات نادرة جدا جدا، ونسبتهم في هذه الوظائف السامية تساوي نسبة أبناء السادة في الأعمال المذكورة سالفا، نظرة واحدة متفحصة ومنصفة إلى الواقع تترك لديك هذه الصورة المقززة والمستفزة.
لم يتغير شيء ، سوى الأقنعة والمسميات ، بعد مرور أكثر من نصف قرن على تأسيس ما يسمى مجازا الدولة الموريتانية وهي في الحقيقة دولة قبائل تقوم على المحاصصة بينهم في الوظائف والصفقات، وبعد ما يناهز أربعين سنة من نضالات لحراطين الوطنية، لم يتغير شيء ذا بال.
مازالت الصورة العامة للصراع الطبقي تعكس صراعا فئويا محتدما بين البيظان ولحراطين حيث يقع لحراطين بفعل فاعل في قاع الفقر والمعانات والتهميش والبطالة والجهل والنظرة الدونية، في حين يرفل البيظان في نعيم سببه الأول نهب المال العام وفساد يستشري في كل مفاصل الإقتصاد الوطني.
نظرة خاطفة إلى اختلاف الأحياء والمساكن تؤكد لك نفس الصورة وتترك لديك ذات الإنطباع.
بجوار أغلب قصور و"فلل" السادة في تفرغ زينة توجد أعرشة أو أكواخ يقطن فيها لحراطين في انتظار الفُتاة أو عَودة الحمالِ أو الحفارِ - ليس حفاركم الشهير- أو خادمات البيوت أو المتسولِ، وفي بعض الحالات تجدهم محشورين في تجمع من الأكواخ والأعرشة إلى جانب حي السادة الفاخر وكأنها تجمعات حديثة من "آدوابة" في قلب العاصمة، وفي حالات أخرى تجد تحت كل قصر كوخا أو عريشا، أي تحت كل سيدٍ تجد عبدًا، يحكي تناغُمهما المتنافرُ قصة ذلك التعايش الظالم الذي يُريد له البعض التأبيدَ ولكن هيهات هيهات، فحركة التاريخ تقول عكس ذلك إن كنتم تقرأون.
كان العبد في الماضي يقضي سحابة يومه خلف مواشي سيده وعندما يعود في الليل ينشغل بحلبها فينال نصيبا من اللبن كاف لسد رمقه وإبقائه على قيد الحياة لمواصلة رحلته السيزيفية في غد جديد ومعاناة جديدة.
وكذلك أصبح الحرطاني - بسبب الوضع الظالم الذي تضعه فيه دولة القبائل- يذهب مع ساعات الفجر الأولى إلى الميناء ليعمل في حمل الأثقال لمؤسسات سادته بالأمس رؤسائه في العمل اليوم – التغيير ظل محصورا في الشكلي دون الجوهري- ويعود في الليل حاملا معه ما يسد به رمقه ويقويه على مواصلة رحلته السيزيفية في غد جديد ومعاناة جديدة.
.
هو هو كان عبدا وصار حرطانيا والنتيجة واحدة واحدة !
.
لم يتغير شيء إذا، سوى الأقنعة والمسميات، حيث ارتدت القبيلة قميصا كُتب عليه بخط رديء "الجمهورية الإسلامية الموريتانية" وكتب تحتها "شرف-إخاء-عدل" وكل ذلك لم يتجاوز كونه بقي شعارا، وَوُضع للعبد قناعٌ مشوه كُتبت عليه بخط خجول كلمة "حرطاني" ومع ذلك يضنون عليه بهذا القناع متى ما تبين أنه يريد تحويله إلى واقع يعتز فيه بكونه حراطانيا ويرفض فيه الذوبان في الآخر أوالإندماج المزيف معه.
.
لماذا لحراطين مُفَقرون وليسوا فقراء، مُجهلون وليسوا جهالا، لأنهم محرومون بشكل ممنهج من فرص العمل وكذلك الشأن بالنسبة لفرص التعليم الذي لا يصح دون مأكل ومشرب وملبس ومأوى.
وقد استُغل أجدادهم وآباؤهم بغير حق ولم تعمل الدولة شيئا لتعويضهم بتمييز إيجابي يسد الهوة الناجمة عن الغبن بل إنها سعت بشكل مقصود إلى إبقائهم في ذيل المجتمع محرومين من الحياة الكريمة في وطنهم.
أسمع صوتا غاضبا يتهمني بالتعميم وتزييف الحقائق وربما يرميني بالعنصرية والسعي إلى بث الفرقة والفتنة بين مكونات الشعب ، من يدري، يقول لي إن من بين نخبة لحراطين من تقلد المناصب الوزارية وأن من بينهم من دخل البرلمان مواليا أو معارضا ثم إن عددا لا يستهان به من البيظان يقع تحت خط الفقر ويعاني من الجهل وأن قبائل عديدة تعاني من النظرة الدونية والإزدراء والتهميش ثم إن العبودية ليست في الجزء الناطق بالحسانية من المجتمع الموريتاني حكرا.
.
وأنا أدعوه إلى إعادة قراءة المقال بهدوء وتجرد وموضوعية.
.
وله أضيف أن نسبة لحراطين الذين وصلوا إلى الوظائف السامية تبقى مهملة أمام ما يستحقون الحصول عليه وأما قوله بأن مجموعة من البيظان تعاني من الفقر والتهميش والنظرة الدونية فلا أحد يمنعه أو يمنعهم من التحرك من أجل حقوقهم والإلتحام بالحركة الحقوقية ولا أعتقد أن أصوات المظلومين تزعجهم، فكلها حقوق مشروعة مسلوبة ولن تسترد إلا في إطار وطني شامل لا يستثني فئة ولا عرقا ولا جهة، وهذا ينطبق على غير الناطقين بالحسانية من الموريتانيين فنحن لا نرمي إلى مداواة الإقصاء بالإقصاء أو التهميش بالتهميش أو الإستعباد بالإستعباد ولكننا لا نسكت عن الحق محاباة أو نفاقا، حتى يقال إننا وطنيون وطيبون.
.
ومن الذي يملك حق وصف الناس بذلك أو حرمانهم منه على مقاسه؟