تراث إنساني على شفا الاندثار (ح3) / محمدُّ سالم ابن جدُّ

النمطية
وجد الإنسان الموريتاني نفسه فجأة أمام واقع جديد لم يسع إليه ولا خطر له على بال، فكان يتعامل معه انطلاقا من تجارب حياتية لا تمت إليه بصلة، فأبرز ذلك غرائب وفرائد بدأت تتلاشى منذ تعود على هذا الواقع ومستجداته.
أحد المهتمين بتحصيل الأخبار والتحقق

منها كان إذا بث خبر أو بلاغ سار إلى من لديه مذياع من الجيران سائلا: "هل قالت رجوكم مثل ما قالته رجو آل فلان؟" وآخر قال إن أمرا ما ثبت لديه حين اتفقت عليه "ثلاث رجوات كلهم أكذب من لگلوگ، ألا فيهم وحده عالمه ابلخره"!
آخر شاهد أثناء البث التجريبي للتلفزيون (1983) جيشا من البشر يحمل ترسانة من الآلات الموسيقية فسأل ما خَطْبُهم فشُرح له أمرهم، وأثناء تتبعهم انتبه إلى موزع النغمات وهو يتحرك حاسرا أعزل بينهم، فلم يفهم شأنه وإنما سأل باستغراب: "ما ايوخظُ عنهم المجنون اصَّه كانهم إيصيبُ للهول"!
أخرى جاءت من الداخل إلى ابنها المقيم بإحدى كبريات المدن لتنال من ماله ما تصلح به شأنها وتلومه على التقصير في حق بيت أبيه، وأثناء وجودها معه استمتعت بالشاشة الفضية، وفي أحد الأصائل فوجئت بظهور مشايخ كبار عليها، وكانت متخففة من ثيابها فبادرت إلى تغطية رأسها وجسمها وأطرقت خجلا، ولم تغفر لآلها "إدخالهم عليها" دون إخبار سابق.
وحين عادت من حيث أتت كانت عاذرة لابنها مشفقة عليه من غوائل كنتها التي "أهلكته بحفلات المطربين!" (تعني ما يبثه التلفزيون طبعا!).

أعلام حيوانية
خلع القوم أسماء بشرية على مسميات من جنس الحيوان بسخاء غريب؛ بدءا بالذئب الذي سموه أفضل اسم رجالي، إلى گابون (يزعمون أنه الدب) الذي دعوه عبد الرحمن (سوى شرتات وگرفاف وغيرهما) ونسبوا إليه حكايات تضحك الثكالى!
أما الأسد فدعوه بابه، وابَّاه (بتفخيم الباء) وآفُشال، بينما دعوا الأرنب أم الفضل، وبنت اجُّوگان (بجيم معقودة) ونصبوا السنجاب (مندريش) قاضيا في مملكة الحيوان ونسبوا إليه ذكاء إياسيا في هذا المجال.
ومن أسوأ ما في الأمر أن من الناس من كان يستعيذ من الحيات بذكر اسم نوح عليه السلام فآل به ذلك إلى إطلاق اسمه عليها فأصبح الاسم الكريم علما على المسمى الخبيث! فلم يكن من النادر أن أسمع قائلا إنه قتل "نوحا عليه السلام" أو رأى أثره أو نحو ذلك، وهو لا يعني إلا حية في كل الأحوال.

التشاؤم
حتى عهد قريب كنت أجد من لا يرى حرجا في ذكر النار وغضب الله وأنواع الشرور الحقيقية، ولكنه لا يجرؤ على ذكر الحية أو العقرب أو الذئب أو نحو هذا وإنما يكني عن كل ذلك توخيا للسلامة منه!
وكان للذئب نصيب وافر من الأسماء والأوصاف والألقاب تعويضا عن حروفه الثلاثة! فهو صيكه، ولمخيزي، واصويحب لغنم، والمخلب، واندَيْبَرْ.. إلخ.
في فترة ماضية كنت يوما أتجول في حديقة للحيوان أقامتها "اسنيم" بكانصادو (انواذيبُ) وضمت حيوانات مختلفة؛ مفترسة وغير مفترسة، وكان بين المتجولين رجل مسن رأى تلك الحيوانات دون تعليق، وبينما هو في جولته رأى الذئب يجري إلى هنا وهناك بحثا عن ملجأ أو مغارة أو مُدَّخل فنهره بأعلى صوته: "مر يخزيك"!
وفي شبابي عرفت رجلا آخر (وكان ذا غنم) وصل إلى الشاؤم بذكر الذئب على لسان غيره أيضا! وفي إحدى الليالي تناوبت وصديقا لي على ذكر الذئب، فكان إذا ذكره أحدنا انقطع الرجل عن المجلس دقائق لتعويذ غنمه فإذا عاد اهتمامه إلى جلسائه عاد الآخر فذكر الذئب فغاب اهتمامه من جديد.. وأخيرا أوسعَنا شتما وتقريعا وأسمعنا ما نكره ولا أظنه يكتفي بالكلام لو فهم أن الأمر مبيت.

التطير
اقتسم القوم مع الجن ما خولهم الله من متاع الدنيا فعرفوا لهم جهة من البيوت وأنماطا من السلوك والأشياء وغير ذلك مما يطول ذكره، فتجنبوا الكل للنجاة من الجن، وما أزال أجد صعوبة في إفهام أشخاص متعلمين أن الجن من عالم الغيب، وهذا لا سبيل إلى إدراكه بالحواس ومن ثم فلا يوجد عنه مما يمكن الوثوق به واعتقاده إلا ما جاء عن طريق الوحي!
ومن المعلوم في علم النفس أن الخيال كالهواء يعمر الفراغ؛ فكلما شحت المعلومات فاض الخيال أو العكس فالعكس، علاوة على أن الإنسان البدوي يجد نفسه حلقة في فلاة ومن فطرة النفس خوف المجهول الذي تتوسع في تهويله أو تخترعه اختراعا.
وقد تجاوز الأمر الخيال الشعبي فاستوطن عقول النخبة! ففي بعض كتب الفقه كراهة عقد الزواج صدر النهار دون تأصيل شرعي مقبول. وغالبا ما يتجنب البعض الزواج في رجب وشعبان، فإذا نبهوا على خطئهم استشهدوا بالقول: "لامة لكصار ألا تگصار ولَّ تمرار" وكأنهم جاؤوا بنص قطعي الورود قطعي الدلالة!
كان أحدهم إذا أراد السفر اختار يوما يراه ميمونا (كثيرا ما يكون الاثنين) وبث في طريقه أشخاصا مختارين ذوي منابت طيبة وأسماء حسان الدلالة، وخصوصا الأخير منهم. ومرة أراد السفر فعمل ما يعمل في العادة، وتعمد أن يكون آخرهم مراهقا شديد الاتصاف بما يتفاءل الرجل به (لكنه مشاكس!).
مر بالأول فسلم عليه وسأله: من أنت؟ فأجابه: أنا محمد محمود بن اعلي سالم، فقال: الحمد لله، حَمدنا وحُمِدنا وعلونا وسلمنا، ثم مر بالثاني كذلك فازداد انشراحه ونشط إلى بغيته، وحين ألقى سؤاله التقليدي على الثالث لم يذكر اسمه ونسبه الحقيقيين وإنما أجابه أنه فلان الفلاني، وسمى رجلا من أسوأ الناس دينا، كان فتيان القوم إذا أرادوا طرده تداعوا للصلاة فينسحب دون مقدمة!
عاد الرجل وحط رحله وقيد بعيره وألغى سفره واكتفى من الغنيمة بالإياب لمجرد ذكر اسم غير محبب إليه. ولله في خلقه شؤون!
(قد يتواصل)
 

17. أبريل 2016 - 18:32

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا