لا يكاد القارئ المسلم المعاصر، يفتح إصدارا جديدا، من سيل المطبوعات التراثية الدينية الجارف، والذي بات يغرق غالبية الرفوف في معارض الكتب، عبر العواصم العربية؛ ما يكاد القارئ يفتح أيا من تلك الكتب والإصدارات، حتى يحاصره حشد من مصطلحات عتيقة، ذات دلالات نسبية، مرنة ومترددة، كانت
قد شكلت، ذات ماض سحيق، إنجازا علميا حضاريا فارقا، لأسلافنا، حين ابتدعوها ثم شحنوها بمفاهيم ومضامين، تلائمهم، زمانا ومكانا وأحوالا.
أصحاب تلك البحوث والإصدارات، من مؤلفين شباب، يستسهلون إعادة إنتاج مقولات التراث، ويحتفون كثيرا بمصطلحات المتقدمين ومفاهيمهم التاريخية، ويعيدون التذكير بتفاصيلها، ويسهبون في شرح معانيها ومراميها، ويبالغون في بسط السير الذاتية لمبتكريها ومخترعيها، ويكيلون المديح لهم، ثم يدفعون إلى رفوف المكتبات بعشرات الإصدارات التي لا جديد فيها غير العناوين وتصاميم الأغلفة، وأسماء المؤلفين، فلا يجد فيها القراء غير حديث عن مفردات معرفية متقادمة، كانت قد ابتكرت لمواجهة نوازل تاريخية، اكتنفتها أزمنة وأمكنة ووقائع وأحداث وأشخاص وأحوال، ثم انقرضت كلها، وبات الجميع سطورا في كتاب التاريخ.
نعم؛ لا جرم أن الشحنة المفاهيمية للمصطلحات التاريخية التي تملأ بطون الكتب، هي إنتاج إسلامي خالص، وقد مثلت خلال حقب من التاريخ الإسلامي الوسيط، مفاتيح ومنطلقات للفكر والممارسة العلمية الصحيحة، أياما كانت فيها الأمة في مقدمة الركب البشري، رغم التداعيات الكارثية للانحرافات المبكرة، ورغم الأزمات الداخلية والخارجية، فهي كانت تنتقل من ماضيها بسلاسة ويسر، لتلج بإرادتها الواعية حاضرا، هي من يصنع مفرداته، بفكرها المتجدد، ومعارفها المبتكرة، وبسواعد وتصميم أبنائها المهرة، وهي من تحدد انطلاقا من حاضرها، معالم مستقبلها.
ومع أن الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية، لم تكن- دائما- على ما يرام؛ وفي ظل المظالم السائدة، وحالة الطوارئ التي طبعت أغلب حقب تاريخنا، وتاريخ الأمم من حولنا، فقد كان في بعض الأمراء والقواد بقية خير وإيمان، وبعض سجايا المروءة والنجدة؛ وكان الشغل الشاغل لنخبة الفقهاء، هو ضمان الوعي الكامل بالأوضاع الداخلية من حولهم، وبالمطامع الأجنبية المتربصة بأقطارهم، إفرنجا، وتتارا، وأسبانا؛ ومن ثم إنتاج الفتاوى الشرعية المتجددة المؤسسة على الموازنة الواعية بين ما يحقق أفضل المصالح المحتملة، وما يدرأ أسوأ المفاسد المرتقبة.
ولقد خلد التاريخ صفحات بيضاء من ذكر وتراث علماء أعلام، ممن يرجع إليهم فضل اختراع أهم تلك المصطلحات، وشحنها بمفاهيم عصرهم، سبيلا إلى إعطاء الموقف الشرعي من المستجدات، فكانت أعمالهم إضافات علمية قيمة، أضاءت ليل حقب مظلمة من التاريخ، امتدت عدة قرون؛ وكان من أبرز تلك الكواكب الدرية، على سبيل المثال لا الحصر، العز بن عبد السلام وتلميذه شهاب الدين القرافي، في مصر وإفريقية، وتقي الدين بن تيمية وتلميذه ابن القيم، في الشام والجزيرة، وأبو إسحاق الشاطبي، وتلميذه ابن عاصم، في المغرب والأندلس. ولو شئت لأضفت إليهم من بادية هذا المنتبذ القصي، محمد المامي ولد البخاري، وبابا ولد الشيخ سيديا.
لقد أعاد أولئك العلماء الأفذاذ، قراءة النصوص الشرعية، ثم استنطقوا قواعد الأصول النظرية الاستقرائية التي سبقتهم، وقارنوا بين الأحوال والأزمنة والأمكنة، وحددوا الفوارق، ومواقع الوفاق، ووازنوا بين الخيارات المتاحة ومآلاتها؛ ثم نظروا إلى المقاصد العامة للشرائع الإلهية، فعرّفوها وميزوا بين ضروريّها وحاجيّها وتحسينيّها، وأبدعوا في فك الثوابت عن المتغيرات، وإعطاء مفاهيم المصلحة والمفسدة، أبعادا تعبدية، واعتبروا السعي في الأرض، لإصلاحها وإعمارها، جهادا في سبيل الله، فنجحوا في إنتاج ما لا عهد للناس به من مسالك ومناهج، لاستنباط الحكم الشرعي، والوصول إلى غايته ومقصده.
أليس ذلك ما نحتاجه اليوم؟ بلى والله... وكل يوم!! فمن لنا بباحثين ومؤلفين، يجددون تلقي رسالة الله، فيلزمون أنفسهم بإعادة قراءة نصوصها المنزلة، ثم، وبعد استجماع أدوات الفكر والنظر، واستنطاق التراث الأصولي في مختلف مساراته وأطواره، يقومون بتنزيل مقتضيات تلك النصوص على مفردات الحياة المعيشة، مع صياغة مصطلحات تستجيب لضرورات الواقع، بمفاهيم متجددة، تلامس الغايات والمقاصد الكبرى للشريعة، وتقيم الحجة البالغة، وتفتح طريق العبور على تقاليد المجتمعات المنقرضة، تمكينا للمجتمع الحاضر، من مواجهة مصائبه ونوازله المتجددة، والإجابة عن أسئلة هو من طرحها، والإسهام من جديد في إسعاد البشرية وعمارة الأرض، تحقيقا لأمر الله وإرادته الشرعية.
على رسلكم، أيها المؤلفون المنقبون عن مآثر الأسلاف المنعمين، في مختلف مظانها؛ وتذكروا، وأنتم تنشرون ما انطوى ذكره من تلك المآثر العظيمة فعلا، أنها؛ وعلى ما لها من أهمية في تاريخ التعاطي مع الدين، ليست جزءا من رسالة الإسلام الكاملة المحفوظة بحفظ الله تعالى، يوم أكملها، وأتم بها النعمة، ورضيها للناس دينا؛ فالحجة قائمة على الناس بها، ما بقي الليل والنهار؛ أما تراث الآباء والأجداد، على أهميته، فهو مجرد فصول من تاريخ التدين، ليس إلا.
من لنا اليوم بكتاب ومؤلفين، من المشتغلين بالتراث وقضايا الدين والمجتمع، يدركون بعمق، حقيقة أن الكثير والكثير جدا، قد تغير، بعد الأسلاف؛ بحيث لو عاد اليوم- وما هو بعائد- أحد العلماء الغابرين، ممن خلفوا وراءهم تراثا ضخما، أعدوه لمواجهة مفردات واقعهم المنقرض، لتبين ذلك الغابر العائد من التاريخ، أن كل المبررات الواقعية التي أنتجت فقهه المسطور قد غابت عن واقع الناس؛ ومن المؤكد أنه سيتولى بنفسه كنس وحرق كل ما له علاقة بذلك الواقع الدابر، من القضايا والمصطلحات والمفاهيم، وسوف يمتشق أدوات العصر ومعارفه ومقتضياته، للتعرف عن كثب على الواقع المختلف من حوله، تمهيدا لإعادة قراءة النصوص الأصلية للشريعة، وتنزيلها على المستجدات الماثلة.
لو حدثت المعجزة- وهي لن تحدث- إذن لانطلقت بشائر نهضة علمية دينية معاصرة، ولقامت مدارس ومعاهد تنتج محاور فقهية تجيب عل كل أسئلة المجتمع، يتقدمها فقه العدالة تحقيقا للمقصد الأسمى للرسالة، ثم فقه الحريات، تجسيدا لكرامة الإنسان، ففقه المواطنة، تحقيقا للمساواة أمام القانون، وفقه الديمقراطية تحقيقا للشورى، وفقه إنصاف النساء، شقائق الرجال، وفقه التكافل والتواد والتراحم والتعاطف والسلام والمسالمة.