لا خلاف على أن السلطة القائمة قد أبدعت في التحصيل، ولا خلاف على أنها قد استطاعت وبأساليب شتى أن تشفط ما تبقى في جيوب مواطنيها من نقود قليلة، ولعل آخر إبداعات السلطة في هذا المجال تتمثل في مصادقتها على إطار ينظم التنقيب السطحي عن الذهب.
إن هذا الإطار الجديد الذي صادقت عليه الحكومة في أيام الشدة هذه،
ليس في حقيقته إلا مجرد مصيدة جديدة تم نصبها للتحايل على المواطن، ونهب ما تبقى لديه من نقود قليلة بعد سبع عجاف.
إنها سبع عجاف وصلت فيها البطالة إلى نسبة تزيد على 30%، وانهار فيه القطاع الخاص، وعرفت فيها بعض الدول التي كانت تستقطب أعدادا كبيرة من الموريتانيين المهاجرين أزمات اقتصادية خانقة.
في ظل وضعية صعبة كهذه تقطعت فيها السبل بعشرات الآلاف من الشباب، تم الإعلان ـ وبشكل مفاجئ ـ عن وجود كميات هامة من الذهب في صحراء انشيري، وقيل بأن تلك الكميات يمكن التنقيب عنها واستخراجها بالاعتماد على أجهزة بسيطة.
فأي شيء يمكن أن نتوقعه بعد هذا الإعلان غير زحف آلاف الشباب الحالمين بالثراء إلى صحاري إنشيري؟
وأي شيء يمكن أن نتوقعه من حكومة جشعة في ظرفية كهذه غير سن القوانين الظالمة، والبدء في إجراءات مشددة لنهب ممتلكات أولئك الحالمين بالثراء السريع ؟
لم تتأخر الحكومة في استغلال الفرصة، ومن هنا جاءت فكرة بيع تراخيص التنقيب التقليدي عن الذهب، وتم تحديد سعر الرخصة بمائة ألف أوقية، وتم تحديد عمرها بأربعة أشهر فقط.
تقول المصادر الرسمية بأن عدد المسجلين الراغبين في الحصول على رخصة تنقيب قد وصل حتى الآن إلى 16 ألف، وهذا الرقم قابل للزيادة، وهو يعني ـ فيما يعني ـ بأن الحكومة ستسرق كل أربعة أشهر مليار وستمائة مليون أوقية من مواطنيها، وذلك بحجة توفير تراخيص التنقيب.
ومن بعد الحصول على التراخيص، أو من قبل الحصول عليها، تأتي عملية شراء أجهزة التنقيب، وإذا ما اكتفينا فقط بستة عشر ألف منقب فإن عملية شراء الأجهزة ستكلف المنقبين ما مقداره : 24 مليار أوقية، هذا إذا ما اعتبرنا أن متوسط سعر الجهاز يصل إلى 1.5 مليون أوقية. نصيب الخزينة العامة من عملية شراء الأجهزة سيصل إلى أربعة مليارات وثمانمائة وخمسين مليون أوقية، وذلك على اعتبار أن جمركة الجهاز الواحد ستكلف 303 ألف أوقية.
وبعد أن يحصل المنقب على رخصة وعلى جهاز، وبعد أن يبدأ في عملية التنقيب فهو سيكون أمام واحد من احتمالين : فإما أن يكون محظوظا فيحصل على غرامات من الذهب، ففي هذه الحالة فإنه سيكون ملزما ببيع الحصيلة للدولة (سيتم تحديد جهة الشراء في الأيام القادمة حسب ما صرح به وزير المعادن)، وهنا أيضا ستجني الخزينة مبالغ مالية من الفارق بين سعر الشراء وسعر البيع. أما الاحتمال الثاني، وهو الأرجح، فيتمثل في عدم حصول المنقب على أي شيء، وفي هذه الحالة فما على المنقب إلا أن يندب حظه، وأن يتحمل لوحده الخسارة.
هذا بالنسبة للمنقب الذي سيقرر أن ينقب بشكل "مشرع". أما بالنسبة للمنقب الذي سيقرر أن ينقب بطرق غير شرعية فهو أيضا سيدفع لخزينة الدولة، وستجني منه الخزينة مبالغ طائلة من خلال فرض غرامات تتراوح ما بين 500 ألف إلى مليون أوقية، مع مصادرة الأجهزة وكميات الذهب المتحصل عليها، هذا فضلا عن السجن لمدة تتراوح بين الشهر والثلاثة أشهر. وللتذكير فإن ما يتم الحرص على تطبيقه من القانون في هذه البلاد هو تلك القوانين التي تتحدث عن عقوبات تشمل غرامات مالية.
خلاصة القول أن حكومتنا الجشعة ستجمع أموالا طائلة من عمليات التنقيب السطحي عن الذهب، وستتقاسم مع المنقبين الأرباح، إن كانت هناك أرباح. أما إذا تعلق الأمر بالخسائر، وذلك هو الراجح، فإن المنقب سيتحمل ـ ولوحده ـ تلك الخسائر.
وبالإضافة إلى الأرباح المالية فإن هناك مكاسب سياسية ستحققها السلطة من عمليات التنقيب السطحي عن الذهب، وتتمثل هذه المكاسب السياسية في إلهاء المواطنين بقضايا التنقيب عن الذهب، وبقصص الثراء السريع، عن الهموم والمظالم التي يعانون منها.
إنها أرباح مالية وسياسية كبيرة ستحققها السلطة في المدى القريب من حمى التنقيب عن الذهب، ولكن هذه الأرباح ستتحول في المستقبل القريب إلى خسائر، ستتحول إلى خسائر في تلك اللحظة التي سيعود فيها آلاف الشباب من صحراء انشيري وهم غاضبون محبطون ويائسون بعد أن أنفقوا آخر أوقية يملكونها في سبيل ثراء لم يتحقق، فويل لحكومتنا الجشعة من ذلك اليوم، وويل لها من شر قد اقترب.
ولو أن قصة الذهب هذه ظهرت في عهد حكومة غير جشعة لتم التعامل معها بطريقة مختلفة تماما، ولكانت مناسبة للتخفيف من البطالة التي يعاني منها الشباب. إن التعامل مع قصة الذهب كان يجب أن يكون على النحو التالي:
1 ـ أن يقتصر منح تراخيص التنقيب عن الذهب على حملة الشهادات العاطلين عن العمل، وأن تخصص نسبة من تلك التراخيص لبعض المستهدفين من برامج وكالة التضامن.
2 ـ أن تتولى الدولة استيراد أجهزة التنقيب، وأن تمنح لأصحاب الرخص أجهزة تنقيب في إطار قروض صغيرة.
3 ـ في حالة حصول المنقب على كميات من الذهب فإنه يلزم بتسديد القرض، وفي حالة عدم حصوله على أي شيء فإنه في هذه الحالة يتم إعفاؤه من تسديد القرض.
حفظ الله موريتانيا..