تتعرض جهود التنمية في بلادنا لجملة معوقات موضوعية شانها في ذلك شأن معظم دول العالم الثالث ،إلا أنها تعاني بشكل خاص من ضعف أداء جهاز التخطيط وقلة حرفيته ،مما ينعكس سلبا علي أداء الجهاز الحكومي ويشتت جهوده، ويبدد طاقته، بحيث تتحول المشاريع التي يفترض أنها إنتاجية، إلي أعباء
علي الاقتصاد الوطني، ناهيك عن زيادتها لمديونية البلاد المرتفعة أصلا.
في الطاولة المستديرة المقامة بالشراكة مع الاتحاد الأوربي في يونيو 2010 ،قدمت وزارة الاقتصاد والتنمية ورقة فنية تُجسد رؤيتها لسبل وفُرص الاستثمار في بلادنا، سعيا للحصول علي تمويلات من الجانب الأوربي، وتضمنت تلك الورقة سبعة محاور أولها محور التنمية الحيوانية ،والذي شمل تلك الأرقام المحنطة التي يلوكها القطاع منذ عقود ،فتذكر مثلا أن إنتاج البلاد من الحليب يصل ل360000 طنا، لتستنتج علي عجل إمكانية إقامة مصانع لإنتاج الحليب طاقة الواحد منها تتراوح ما بين 60 إلي 100 طن يوميا ،بالتالي فلا ينقصنا سوي المال لتحقيق الاكتفاء الذاتي ثم التصدير لاحقا لمنتجات الألبان ..!.
لم يبلع الأوربيون الطعم لأسباب اجهلها، لكن الهنود ممثلين بمصرف EXIM Bank قبلوا ووفروا قرضا بمبلغ يتجاوز خمسة مليارات أوقية ،لتمويل بناء مصنع لإنتاج اللبن المبستر والمعقم بطاقة إنتاج يومية تقدر ب30 طنا في مدينة النعمة، ترفده ثلاث وحدات للاستقبال والتجميع في مناطق متفرقة.
سيدشن المصنع قريبا بإذن الله ،فالبناء اكتمل والمعدات ركبت ،وسيتبادل مسئولو الوزارة التهاني بعد تذوق منتجات المصنع، كما أن ارتياح السلطات العليا لحجم الانجاز يُضفي نكهة خاصة علي مذاق المنتجات .
المسكوت عنه في قصة المصنع
لقد خطط لهذا الاستثمار انطلاقا من معطيات مغلوطة وغير دقيقة، تبنتها وزارة الاقتصاد والتنمية، بعد أن قدمتها وزارة البيطرة الجهة المسؤولة عن كافة المعطيات المتعلقة بالقطاع وشملت المغالطات ما يلي:
عدم دقة المعطيات المتعلقة بكمية الألبان المنتجة؛
عدم الأخذ بالحسبان موسمية الإنتاج وتذبذبه؛
استحالة توفير احتياجات المصنع خارج فصل الخريف، فتواجد هذا الكم الهائل من الأبقار في دائرة قطرها تحدده وعورة الموصلات فالحليب لا يستطيع تحمل عدة ساعات، دون أن يتلف والأبقار تحتاج للمرعي؛
تجاهل سيادة أنماط الإنتاج المعتمدة علي الانتجاع فالمصنع يصلح لمزارع الحيوان التكثيفية؛
تجاهل دروس وعبر تجربة مصنع ألبان لعيون؛
تجاهل أدبيات استغلال الألبان في منطقة الساحل؛
تجاهل هشاشة القطاع العمومي في إدارة المؤسسات الإنتاجية.
في ظل الملاحظات السابقة، اخشي أن يتحول المصنع من مشروع إنتاجي لتطوير منطقة حيوية، إلي مجرد عبء علي الاقتصاد الوطني، وهنا يجدر بنا جميعا أن نتذكر أن الحكم علي نجاح المشاريع التنموية لا يكون بانجازها بل بانعكاساتها الايجابية.
تحمل قصة مصنع ألبان النعمة الكثير من الدروس والعبر، علي الجهات المعنية أخذها بالحسبان ، حتي لا تكرر نفس الأخطاء، ولعل أهم تلك الدروس، ضرورة الاهتمام بدراسات ما قبل التنفيذ والتركيز علي السياق الوطني، واعتماد المعطيات الحقيقية، فبعض خبرائنا يجتهدون في إقناع الممولين وفي النهاية نقع نحن في الفخ