نحن الآن في مفترق طرق سياسي حاسم، تحاول فيه قوى الردة والنكوص التي هزمت في موريتانيا منذ حركة التصحيح في 6 أغسطس سنة 2008، والتي تتمترس تكتيكيا خلف يافطتي المعارضة والموالاة بمقادير، اقتداء بقتلة عثمان، افتعال أزمة سياسية والبحث لها بإلحاح عن حلول تقربها من الفساد زلفى،
لعل وعسى! ومن بين الأساليب المفضلة لديها: التوجه إلى الشارع والحشد من أجل الحشد.
ومن المعلوم في مثل هذا الوضع، أنه عندما ترتفع حمى الحشد إلى عنان السماء، وتصدح أبواق النفير في صخب تتعاوره طفرة التكنولوجيا وخصامة الإنسان، وتدب حميا التحريض والتعريض في أوصال المأزومين والحيارى فتدُعّهم نحو المنصة دعًّا، بحثا عما يعتبرونه - صوابا أو خطأ- مصالحهم المفقودة وحقوقهم المغتصبة؛ وتترنح الخطب الرنانة على غير هدى، فلا تقدم حلولا لمشكلات التطور الملحة، ولا ترمي إلى بلوغ أهداف وطنية واجتماعية كبرى.. هنالك يضحك إبليس مقهقها ملء فيه، ويتمايل طربا ويرقص مواويل "اكنو" و"دگداگه" و"باشانغا" مقتنعا وواثقا بأن الأمة التي أغواها قد اجتمعت على ضلال وسلكت طريقته المثلى.
... ويتفرق الزاحفون أيدي سبا فلا يلبثون أن يصابوا بخيبة الأمل والإحباط. والإحباطُ هو أحد أسلحة المفسدين الفتاكة الثلاثة: الإفراط والإسقاط و الإحباط.
وقد تكرر هذا المشهد في حياتنا "السياسية" عشرات المرات وما يزال سائدا:
- "حشد" المنتدى بزعاماته السابقة واللاحقة فتغنى كل طرف نشازا بليلاه. وتفرق الناس دون أن يعوا من الأمر شيئا، أو يطربهم عود أو تغريد، أو يتبينوا الوجهة التي هم مُوَلُّوها!
- و"حشد" التحالف فامتدح الزعيم نفسه وزكاها وأثنى عليها وقال: تضرب أكباد الإبل شرقا وغربا فلا يوجد إمام مثلي. وتفرق الناس...
و"حشد" الحزب الحاكم في دار الشباب وغيرها فكان التعريض وثلب وسب المعارضة الغائبة الحاضرة بين ثناياه الموضوع الأبرز في خطاب الحشد. وتفرق الناس...
وحشد الرئيس أحمد ولد داداه على وقع أغاني المعلومة أيام زمان! ومن حق الرئيس أحمد ولد داداه أن يحشد، لأنه - على علات حزبه وفريقه الكثيرة- يمثل شيئا في هذه البلاد أصالة وخلقا وصمودا، وهذا سبب نجاح حشده. ولكن ليس من حقه أن يضلل أنصاره ومستمعيه بدعوته التي وجهها إلى الرئيس بالاستقالة واعدا إياه بالعفو عنه. ذلك أنه حتى لو افترضنا جدلا وجود أزمة سياسية وحشد جماهيري ثوري يفرضان على الرئيس الاستقالة من منصبه، فإن الرئيس أحمد لن يستطيع الوفاء له بالعهد الذي قطعه، لأن الأمور لن تكون بيده؛ بل بأيدي جحافل المفسدين الذين يتقنون لعبة اللجوء إليه وتمرير خطاباتهم عبره في أوقات الشدة، وخذلانه والتملص منه في أوقات الرخاء.
وبالأمس "حشد" الميثاق فأبدى "البيض" عن أسؤقهم كيوم تحلاق اللمم... وظلت تتمازج وتختلط كالعادة شعارات مناهضة عبودية وهمية معششة في عقولِ وجيوبِ بعضِ مَنْ هُمْ في أمس الحاجة للتحرر الذاتي منها، مع النضال من أجل حقوق حراطين وفقراء مهمشين ومسحوقين لأسباب تاريخية قد لا تكون ذات علاقة مباشرة بالرق الذي ولى إلى غير رجعة.
وغدا سيحشد الحزب الحاكم والدولة في النعمة. وسيبذل المفسدون دعاة الردة والنكوص جميع جهودهم من أجل أن لا يختلف حشد النعمة عن الحشود الأخرى، وأن نظل نراوح في مكاننا. ومن يراوح يتقهقر. وسيفعّلون كل أدران المجتمع من قبلية وجهوية وعنصرية لتخريب النسيج الاجتماعي، ويُعملون أسلحتهم الفتاكة من إفراط وإسقاط وإحباط.
ولكن، هل سيقبل رئيس الجمهورية الوقوع في فخ "الحشد من أجل الحشد"؟ لا أعتقد ذلك. "ولا علم إلا حسن ظن بصاحب" كما قال النابغة.
ومما يثلج الصدر ويبعث الأمل أن المفسدين والمرجفين في الدولة قد فشلوا حتى الآن في تخمين موضوع خطاب حشد النعمة، أحرى أن يطلعوا على فحواه.. ولم يأت مستمعهم بسلطان مبين.