في البداية أود التنبيه إلى أن الجدل المثار في بلادنا مؤخرا حول تعديل الدستور من أجل تمكين الرئيس عزيز من الترشح لولاية ثالثة أمر مقلق، ليس كرها في هذه الولاية وحسب، بقدر ما أن ذلك منذر ببداية اللعب بأسس وقواعد مسار البلاد الديمقراطي الذي لازال هشا وغير مستقر، ما ينذر بعواقب لن تحمد
نتائجها، وبرغم احترامنا لكل الآراء مخالفة كانت أو موافقة، لأن ذلك أبسط مبادئ الديمقراطية، والإختلاف في الرأي أمر طبيعي ،فهو يثري تنوع الأفكار والآراء، ويعتبر مظهرا صحيا في الدول والمجتمعات التي تؤمن بالديمقراطية وتطبقها في سلوكها. إلا أنه يصبح غير ذلك إذا تعلق الأمر بما يعتبر ثابتا من الثوابت اللازمة للأمة كالديمقراطية مثلا.
إن علو الصخب المنادي –في جرأة غير إعتيادية- بضرورة تعديل الدستور أصبحت تفرض على المراقب أن ينظر إلي تلك الآراء بشيء من الريبة بإعتبارها ليست بريئة وأنها ربما دفعت دفعا لإثارة هذا السيل الجارف من الضجيج حول الموضوع. أو أن تلك المعزوفة لامست على الأقل هوى للسلطة، خاصة في ظل م ايشبه الصمت المطبق من النظام عموما ورئيس الدولة بشكل خاص المعني الأول بالأمر...
ولعله من الواجب في البداية أن نبدي بعض الملاحظات ونحن بصدد موضوع هام وحساس كتعديل دستور البلاد الحالي، الذي يفترض أن تعديله لا يمكن أن يتم، إلا وفق منظومة كبيرة من التوافقات السياسية والمجتمعية على مضمون أي مقترح تعديل للدستور، فقد حاز الدستور الحالي في آخر تعديل له كما هو معلوم، على موافقة الشعب في إستفتاء عام كلف دافع الضرائب الموريتاني أموالا طائلة كانت البلاد تحتاجها في أوجه التنمية المختلفة، وإذا كانت ثمة حاجه إلى تعديل للدستورفمن المفترض أن يكون هناك توافق وطني عام على ماهية هذا التعديل وكذا الهدف منه، وما إذا كانت هناك حاجة أوضرورة لهذا التعديل.؟ ذلك أن احترام الدساتير والقوانين المعمول بها في أي بلد هو مبدأ مستقر ومتعارف عليه في كل الدول الديمقراطية . وأي مساس بالدستور خارج التوافق الوطني سوف يدخل البلاد في متاهات لا تكون محمودة العواقب على المدى المتوسط والبعيد. فماهي الضرورة القاهرة الآن التي تفرض عند البعض السعي لتعديل الدستور؟ ونضرب عرض الحائط بأهم ضمانة دستورية حرص المشرع الموريتاني علي تضمينها في الدستور كما لا يكاد يخلو منها دستور في العالم اليوم؟
إدراكا منه بضرورة وجود ضمانة دستورية تكفل إنتقال البلاد إنتقالا ديمقراطيا حقيقيا من عهود الإستبداد وأنظمة حكم الفرد، ووضع حد للانقلابات العسكرية التي تتالت على حكم البلاد في العقود الأخيرة، فقذ سعي المشرع الموريتاني إلى وضع ما رأى بأنها أهم ضمانة دستورية تعمل على توطين نوع ما من الإستقرار السياسي في البلاد، وكان ذلك السبب الرئيسي إن لم نقل الأوحد في تعديل الدستور الحالي في 2006م لوضع ضمانات دستورية صارمة تمنع أي تعديل قد يسعي رئيس الجمهورية في المستقبل من خلاله إلى تعديل المواد المتعلقة بمد مأموريته وشروط تجديدها الواردة في المادتين 26 و28 من الدستور، وقد سبقت هذا التعديل مشاوارات مكثفة شملت كل ألوان الطيف السياسي والمدني، من أحزاب سياسية و منظمات المجتمع المدني ونقابات مهنية. وقد حرص المشرع الموريتاني في هذا التعديل كزيادة في قوة والزام هذه الضمانة وتأكيدا عليها،علي أن يضمن ذلك التعديل ضمن نص يمين القسم الدستورية التي يقسم بها رئيس الجمهورية أمام المجلس الدستوري قبل مزاولته لمهام عمله كرئيس الجمهورية. ولم يكن ذلك ترفا قانونيا في النص الدستوري، وإنما ضمانة دستورية حقيقة لجأ اليها المشرع في هذا التعديل الدستوري2006 وكان المشرع في هذه الحالة هنا هو المجلس العسكري الأعلي والذي كان الرئيس الحالي آنذاك أحد أعضائه.
فهل يتصور أن الرئيس الذي (وضع) هذا النص الدستوري وأقسم عليه مرتين أمام المجلس الدستوري وأمام الشعب: (..أقسم بالله العلي العظيم أن لا أتخذ أو أدعم بصورة مباشرة أو غير مباشرة أية مبادرة من شأنها أن تؤدي إلى مراجعة الأحكام الدستورية المتعلقة بمدة مأمورية رئيس الجمهورية وشروط تجديدها الواردة في المادتين 26 و28 من هذا الدستور)انتهي الإقتباس. فهل يتصور ان يكون نفس الرئيس أول من يقدم علي مخالفة القانون والدستور بسبق إصرار وترصد، بدل أن يحميه ضاربا عرض الحائط بالقدسية التي يتمع بها النص الدستوري في كل دول العالم فضلا عن الحنث باليمين، ما يضعه عرضة لمخالفة دستورية وقانونية قد تستوجب محاكمته.
إن تحديد مأموريات رئيس الجمهورية في ولايتين تجمع عليها غالبية الدول الديمقراطية في العالم اليوم تقريبا، ويصبح القيد ضروريا أكثر كلما تعلق الامر بالدول التي تسلك أولى خطواتها في الديمقراطية، أو هي حديثة عهد بأنظمة دكتاتورية وغير ديمقراطية، مما يتطلب وضع ضوابط دستورية وقانونية أكثر صرامة لتكون مانعا من انتكاسة مسارها الديمقراطي، والعودة إلى الاستبداد من جديد ،الذي لا زالت حديثة عهد به. وبلادنا طبعا ينطبق عليها هذا الأمر إذ لم يمض كثير من الوقت على آخر إنقلاب عسكري على رئيس مدني منتخب ديمقراطيا كان قاده الجنرال عزير الرئيس الحالي. ومن المفارقات ان يكون من يسعي لتعديل الدستور الآن هو نفس الرئيس الذي كان شارك اوقاد آخر إنقلابين عسكريين تشهدهما البلاد ، فأي منطق يركن اليه هؤلاء الذين يدافعون عن التلاعب بالدستور وهدر قدسيته، ام انهم نسو الماضي القريب للإنقلابات العسكرية التي لا تزال البلاد ترزح تحت رواسبها الى الآن.
إن الديمقراطية ليست قميصا يفصله الواحد علي مقاسه وإذا ما زاد وزنه أو نحل جسمه أعاد تشكيله من جديد بما يناسب وضعه الطارئ ، لكنها قيم ومبادئ وقواعد عامة وثابتة لا تتأثر بأمزجة خاصة، بحيث إذا كان هذا الوضع يناسبك اليوم تعاطيت معه وإذا لم يناسبك حنثت بأيمانك ،وركلته برجلك وجعلته وراء ظهرك.
إن من واجب الرئيس عزيز بوصفه أعلى قامة باسم الدولة أن يكون القدوة والمثال الحسن بإحترام القانون والدستور ،ويلتزم بما الزم به نفسه، ويُسكت تلك الأصوات التي تحاول بحسن نية أو غير ذلك بأن يحرضوه على خرق الدستور والقانون، لأن الشعوب وعت ولم يعد بالإمكان خداعها أو تضليلها. وأن يكون ذلك بلغة واضحة صريحة لاتقبل التأويل. و ذلك فقط ما سيوقف تلك الحملات المسعورة التي يأبي العقل أن يتقبل براءتها.
بقي أن أذكر بملاحظة سريعة أن التحجج بأن ولايتين رئاسيتين لا تكفيان لإكمال الخطط التنموية للرئيس، هو قول مردود عليه. وسأضرب مثالا حيا واحدا هو دولة تركيا التي حكمها رئيس الوزراء رجب طيب اردكا،وخلال عشر سنوات فقط إستطاع اردكان نقل تركيا نقلة نوعية :ففي عشر سنوات إرفعت الرواتب 300% ،وانخفضت نسبة البطالة من 38% الى 2% ،وقام ببناء 125 جامعة جديدة، واصبح ألإقتصاد التركي في المرتبة 16 بعد ماكان في المرتبة111 رفع الناتج القومي لتركيا 1.1 تريليون دولار وهوما يساوي الناتج المحلي لأقوي ثلاث إقتصاديات في الشرق الأوسط هي إيران والسعودية والإمارات. انشأ 510 مشفي جديد قام بسداد 47 مليار دولار حجم العجز في الميزانية ، إرتفع دخل الفرد في تركيا في عهد اردكان من 3500 دولار 11000 دولار وهو أعلى من دخل الفرد في فرنسا. قام بتصنيع أول قمر صناعي عسكري تركي بالإضافة إلي تصنيع أول دبابة وعربة مصفحة في تاريخ تركيا .
فماذا انجز الرئيس عزيز .؟؟ حتى نضحي بالدستور ومبدأ التناوب السلمي على السلطة.؟ فبرغم إنجازات اردكان الهائلة لبلاده لم يسع لا هو ولا الشعب التركي إلى تعديل دستور برغم حبهم لأردكان أم ترى الأتراك أحرص علي ديمقراطيهم منا على ديمقراطيتنا.؟! أما الحديث عن إنجازات عزيز خلال فترة حكمه للبلاد، فقد نفرد لذلك مقالا آخر بحول الله، لنتساءل بعد ذلك هل تستحق تلك( الإنجازات) أن نخرق دستور البلاد ونضرب به عرض الحائط لنتيح للجنرال الفرصة كي يصبح (الرئيس الضرورة)الذي لا نستطيع الإستغناء عنه، كما يحدث في ظل الأنطمة الشمولية الدكتاتورية..؟!! .