كشفت زيارة الرئيس محمد ولد عبد العزيز لمدينة النعمة عاصمة الحوض الشرقي عن وجهين متناقضين بقدر تكاملهما، و متباينين بقدر تقاربهما بين واقع الأحوال المتأثر بآثار العطش و البعد عن "أمل" ـ ما زال بعيد التحقق ـ الذي حمله ذات يوم اسم الطريق حيث ينتهي بعد ماراتون الألف و المائة كيلومتر
في وسط العاصمة الجهوية عند أطلال المدينة القديمة التي تشبه مساكن الأشباح و دور و محلات الأحياء التي يراد لها أن تكون تعبيرا عن المدنية و العصرنة و عن الالتحام بالحداثة و ما هي بقريبة من ذلك شكلا و مضمونا، و إنما وقعت حافرا مغبرا على حافر مغبر. و لولا شجاعة أهلها و خلفيتهم التاريخية الراسخة رسوخ جبالها المحيطة لتلاشت مطمورة تحت كثبان أتربة المعاناة من جراء الجفاف و شح الأمطار و العطش المزمن و البعد على الخريطة و إهمال كل الأحكام المتعاقبة و كل أبنائها أطرا و سياسيين و رجال أعمال الذين سرعان ما يستغلونها و أهلها سياسيا ليهجروها بعد تحقيق مآربهم إلى العاصمتين نواكشوط و نواذيبو من ناحية، و لمن بقي منهم صامدا حتى يرى الانعكاسات الإيجابية لمشاريع يجري إنجازها و تشييدها كخزان ماء "آفطوط" و مصنع الألبان الكبير و زيادة مد و توسيع شبكة الطاقة الكهربائية.
و أما الخطاب الذي كان محوره الأول حصيلة بالأرقام لفترة حكم يتجه إلى استكمال عقد من الزمن تجلى في مأموريتين متتاليتين من خمس سنوات لكل منهما، فقد جاءت من خلال الأرقام الإيجابية عن المنجزات التي تحققت خلال ما فات على أرض الواقع و قد عددها الرئيس محمد ولد محمد ولد عبد العزيزو كأنها إجابة ضمنية متعمدة عن بعض التساؤلات حول ما إذا كان نظامه يرى و يعترف بالصعاب التي تعانى منها المدينة بوصفها عاصمة الولاية و كذا مقاطعاتها الأخرى التي تتبع لها من:
· نقص حاد يلامس الصفر في البنى التحتية،
· و ندرة المياه الجوفية و ضعف السياسة المائية عامة في ولاية رعوية بامتياز و زراعية تقليدية يغطي إنتاجها جزء كبير من احتياجاتها الغذائية في خلال السنوات الماطرة،
· و غياب قواعد صناعية من أي مستوى تعنى بثرواتها الكيرة و تستوعب اليد العاملة الحية من الساكنة،
· و ضعف التغطية الصحية البشرية عموما،
· و معاناة الثروة الحيوانية الكبيرة من ضعف الرعاية الصحية و عديد النواقص التنظيمية المطلوبة بإلحاح شديد؛
اعتراف و جواب وردا كمتلازمتين لذكر مشروع "آفطوط" الهام الذي اكتمل بناء خزانه بسعة كبيرة، و مصنع الألبان الذي دشن ليشغل عددا معتبرا من اليد العاملة و يهدف إلى استغلال ألبان الثروة الحيوانية الكبيرة في قالب صناعي و صحي حديث و توفير فرص عمل كثيرة أخرى عند التوسع تبرر استقرار أصحابها في المواطن الأصلية.
و أما المحور الثاني الذي كان سياسيا بامتياز فجاء ليلامس قضية أخذت منذ أمد قسطا من التحليلات لدى المعارضة و تحديدا منها المنضوية تحت سقف "المنتدى"حول تعديلات مزمعة على الدستور تفتح الباب أمام مأمورية ثالثة. و لما أن الرئيس الذي هاجم المعارضة مبينا من وجهة نظره مكامن الضعف فيها لم يفصح عن نية ترشحه و لكنه أعلن عن إمكانية الاستغناء عن الغرفة الثانية و هي مجلس الشيوخ حيث أوضح أنها عبء على الميزانية و تعطيلا للعمل البرلماني و مجريات عمله ككل.
و في المحور الثالث شدد الرئيس ولد عد العزيز على ما تحقق في الجانب الأمني مذكرا أن الجيش بصدد اقتناء طائرات حربية تؤمن أجواء البلد و تحمي رحلات الطيران المدني.
و لما أن أنصار الرئيس استحسنوا الخطاب بكل مفاصله و وجدوا فيه كل مكامن قوة النظام و استجابته لآمالهم و طموحاتهم، فإن المعارضة و أنصارها اعتبروا ما تضمنه الخطاب بشأن مجلس الشيوخ بمثابة الإساءة على الدستور و سعيا مرفوضا عندهم إلى لمساس به وفي مادته المتعلقة تحديدا بعدم إمكانية الترشح لمأمورية ثالثة. و أما عن المجالس الجهوية التي يزمع إحلالها محل مجلس الشيوخ فرأوا فيها مزيدا من توجيه البلاد إلى مسالك الفساد و تبديد أموال الدولة في تجربة ما زالت ناقصة النتائج في بلدان سبقت موريتانيا إليها.
و ما بين مستحسن للخطاب و متحمس لتعديل الدستور بما يمكن من تمديد الحكم سنوات خمس أو أكثر أخرى، و مستهجن لما جاء فيه و رافض ما تأكد له من نية المساس بالدستور و ما يترتب عن ذالك، يبقى الباب مفتوحا في المستقبل على كل الاحتمالات التي إن كان أقصاها مخاض آخر عسير، فإن أدناها لن يكون إلا قبول استمرار المسار الذي يقوده ولد عبد العزيز و يرتضيه أنصاره إلى مزيد من تحقيق برامجه و رؤاه.