لقد نشرتُ في الأيام الماضية، وفي وقت كان فيه بريق سراب الذهب يخطف
العقول من قبل الأبصار، مقالا تحت عنوان "وتتواصل عمليات شفط جيوب المواطنين"، وهذه فقرة من المقال المذكور : "إنها أرباح مالية وسياسية كبيرة ستحققها السلطة في المدى القريب
من حمى التنقيب عن الذهب، ولكن هذه الأرباح ستتحول في المستقبل القريب إلى خسائر، ستتحول إلى خسائر في تلك اللحظة التي سيعود فيها آلاف الشباب من صحراء انشيري وهم غاضبون محبطون
ويائسون بعد أن أنفقوا آخر أوقية يملكونها في سبيل ثراء لم يتحقق، فويل
لحكومتنا الجشعة من ذلك اليوم، وويل لها من شر قد اقترب".
لا خلاف على أن الدولة قد حققت في الأسابيع الماضية أرباحا طائلة من
جيوب مواطنيها: بيع آلاف رخص التنقيب؛ جمركة الآلاف من أجهزة التنقيب؛
بيع كميات هائلة من المحروقات السائلة للسيارات العابرة للصحراء المتجهة
شمالا للتنقيب عن الذهب، أو المتجهة شرقا لاستقبال الرئيس. ومن المعلوم
بأن كل لتر مازوت يباع على أراضي الجمهورية الإسلامية تربح منه خزينة
الدولة ما يزيد على 250 أوقية، مما جعل أرباح المحروقات تمثل ما يزيد على
النصف من إيرادات الميزانية.
ما حدث في الأسابيع الماضية يمكن تلخيصه بالشكل التالي: السماء أمطرت
ذهبا على خزينة الدولة، وعلى شركات أجهزة التنقيب وعلى ممثليها وسماسرتها
في موريتانيا، وذلك في الوقت الذي تعرض فيه آلاف المواطنين لخسائر فادحة
بسبب التنقيب عن الذهب.
تلكم هي الأرباح المالية التي حققتها الدولة من قصة التنقيب عن الذهب،
أما الأرباح السياسية فتمثلت في إلهاء آلاف الشباب بقصص التنقيب عن
الذهب، وإشغالهم بتلك القصص عن قضايا الوطن الشائكة.
هذا هو ما حدث في الأيام الماضية، أما ما سيحدث في الأيام القادمة فسيكون
على النحو التالي : عودة آلاف الشباب وهم في حالة نفسية ومالية صعبة،
وسيترتب على ذلك المزيد من الاحتجاجات، هذا إذا لم تنجح خطة السلطة في
امتصاص غضب الآلاف من العائدين من صحراء انشيري.
ستعتمد خطة السلطة على أسلوبها القديم الجديد، وهو أسلوب في غاية البساطة
والذكاء، ويتمثل هذا الأسلوب في محاولة إشغال الرأي العام بقضايا سياسية
بدلا من الانشغال بمعاناة العائدين من صحراء انشيري، ستحاول السلطة أن
تجعل من الحوار الموعود، ومن إلغاء مجلس الشيوخ قضايا سياسية ساخنة
للتغطية على ما يمكن تسميته بالكارثة الصفراء.
ومع أنه لا خلاف على أهمية هذه القضايا، إلا أن تلك القضايا يجب أن لا
تشغل الناس عن الكارثة التي تعرض لها آلاف الشباب، والتي تعد السلطة
القائمة هي المتسبب الأول في حدوثها.
إن قضية العائدين من صحراء انشيري يجب أن نجعل منها قضية رأي عام خلال
الأيام والأسابيع القادمة، وعلينا أن لا نترك أي قضية أخرى تطغى عليها،
وفي هذا الإطار فإن هناك عددا من المدونين سيعمل من أجل أن يجعل من
معاناة العائدين القضية الأبرز في مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام
والأسابيع القادمة.
إن هناك جهات عديدة تسببت في حصول هذه الكارثة، ويتحمل الضحايا أنفسهم
جزءا من المسؤولية، ولكن الجزء الأكبر تتحمله السلطة، ولذلك فإن عليها أن
تدفع الجزء الأكبر من الفاتورة.
إن السلطة تتحمل المسؤولية الأكبر، وذلك لأنها:
1 ـ لم تبذل أي جهد لكشف حقيقة الذهب لمواطنيها، ولم تبين لهم أن احتمال
الخسارة هو الأكبر، ولم تقل لهم بأن الذهب حتى وإن كان موجودا فقد تمت
المبالغة كثيرا في الكميات الموجودة منه.
2 ـ على العكس من ذلك فقد عملت السلطة على استغلال "كذبة وجود الذهب" أو
"حقيقته المبالغ فيها" من أجل تحصيل موارد مالية هائلة على حساب مواطنيها
من خلال بيع الرخص وجمركة أجهزة التنقيب ومن خلال التربح من الزيادة
الحاصلة في استهلاك البنزين.
3 ـ ظهرت السلطة بمظهر المتآمر مع بائعي أجهزة التنقيب وسماسرتهم وهو
الشيء الذين مكن بائعي الأجهزة وسماسرتهم من مضاعفة أسعار الأجهزة على
حساب المواطنين الحالمين بالثراء السريع.
4 ـ كل تصرفات السلطة في هذه الفترة ساهمت في تصديق المواطنين لكذبة وجود
الذهب بكميات كبيرة (بيع الرخص، إصدار قوانين لتنظيم عملية التنقيب...).
5 ـ السلطة أظهرت جشعا غير مسبوق في هذه العملية، ولم تهتم بتوفير أبسط
مقومات الحياة للمنقبين (ماء، صحة ، أمن ..)، وذلك على الرغم من أنها
جمعت أرباحا طائلة على حسابهم.
6 ـ إن من استفاد من هذه العملية هو السلطة وبائعي أجهزة التنقيب الذين
ساعدتهم السلطة في ذلك، ولذلك فإنه عندما تحين لحظة الحساب فإن على
المستفيد الأول أن يدفع الجزء الأكبر من الثمن، ولقد حانت لحظة الحساب..
حفظ الله موريتانيا..