بعض الناس عند سماعك لكلامه لأول مرة في مواضيع معينة تجد في معالجته لها خللا وعدم إدراك وواقعية، تلتمس له الأعذار بأنه إما غير مطلع أو غائب أو تلتبس عليه الأمور، أما عندما يكون كلامه هذا للمرة الألف ويدور حول نفس الأفكار والأهداف، وبنفس الأسلوب ولنفس المغازي والخلفيات لا يحيد
عنها قيد أنملة، فلا تتركه يستغفلك أو يضحك عليك، حتى لو كنت واثقا من أن لا أثر ولا تأثير لما يخوض فيه على مجريات الأمور..
أحد هؤلاء معروف بتسخير وقته وجهده للتأليب ورمي الشباك في كل المستنقعات، و التبرع ب" تفقيه " الرأي العام في كل ما يعتقد أنه سيشكل الضربة القاضية للنظام ويشعل ثورة ضده، يضع الخطط ويوزع الجبهات ويقترح البدائل في حالة الفشل.. وكان حديثه اليوم عن الذهب والأمل في أن يعود المنقبون عنه ويتجهوا مباشرة بفؤوسهم وبالاتهم وأعمدة خيامهم صوب القصر لهدمه على رأس ساكنه، كان هذا الحديث إذن هو الحديث الألف ضمن سلسلة التأليب هذه التي يبدو أن صاحبها لا يبالي بمدى صداها، وإلا كان اكتفى بما اجتهد على إخراجه مما مضى من حلقاتها.
نحن لسنا ناطقين باسم الدولة لنرد على اتهامها بالتغرير بالمواطنين المنقبين، لكننا ناطقون باسم الواقع والعقلانية، وقد شاهدنا، كما شاهد الجميع، مدير المعادن على شاشة التلفزيون وهو يقول إن الذهب السطحي يوجد بكميات قليلة، وإنه ليس بالصورة المنتشرة والمتداولة بين الناس، وأن التنقيب عنه ليس نزهة ويتطلب الكثير من النفقات والمشاق، وأنه على المواطنين التريث والتفكير قبل خوض مغامرة البحث عنه، وقد وجدت أن هذا التصريح حصل على سبعة آلاف مشاهدة على " اليوتيوب "مما يعني أنه وصل إلى أكبر عدد من المهتمين بالموضوع والباحثين عن حقيقته، لكن متى كان الموريتانيون يستجيبون للنصح والتوجيه؟ وماذا كان سيكون الوضع، وماذا كان سيقال لو أن الدولة قالت إن الذهب غير موجود إطلاقا، أو كانت منعت ترخيص التنقيب عنه؟ ألن يقال إن الدولة تعلم بوجود الذهب فترخصه للشركات الأجنبية وتحرم منه مواطنيها، وأول من كان سيقول ذلك هو من ينتقد الدولة اليوم لسماحها للمواطنين بخوض مغامرة التنقيب عن الذهب؟ وكنا سنطالع بيانات شجب وتنديد ونرى احتجاجات بهذا الخصوص، ولكان المناوئون حرضوا " المحرومين " من التنقيب على حرق الأخضر واليابس من أجل الترخيص لهم فيه!!
الدولة تأخذ الضريبة على الكثير من الأنشطة الإنتاجية، فتأخذها على استخراج المحار وعلى استخراج الحصى ورمل البناء، وتأخذها على ما يستخرجه الصيادون التقليديون والصناعيون من الأسماك، ولا تسمح بممارسة الصيد البحري إلا بترخيص مدفوع المقابل، وتخضع كل معداته ومستلزماته للجمركة، وترخص للمشتغلين بحرق الأشجار اليابسة لاستخراج الفحم بمقابل وتأخذ على ذلك النشاط ضرائب، وترخص قيام المصانع وورشات الإنتاج بمقابل كذلك وتخضع أجهزتها ومعداتها للجمركة وتأخذ عليها الضرائب، وليست موريتانيا بدعا من غيرها من بلدان العالم التي سبقتها لترخيص الأنشطة الإنتاجية وأخذ الضريبة عليها للمساهمة في المجهود التنموي، فكيف لا تأخذ الضريبة المسبقة على ممارسة التنقيب عن الذهب الأكبر مردودية والأغلى ثمنا؟! أم تترك ضريبته إلى حين العثور عليه، فمن ذا الذي سيصرح بما حصل عليه منه؟!
ماذا كان سيكون عليه الوضع كذلك لو أن الدولة أعفت عمليات التنقيب من الترخيص وأجهزته من الجمركة؟ ألن تكون أعداد المتدفقين إلى هذه المناطق أكبر بكثير لتكون الخسارة أوسع وأشمل، لأن الكثيرين حالت إلزامية الترخيص وجمركة الأجهزة بينهم وخوض هذه المغامرة؟
ثم ماذا كان سيحدث أيضا لو أن الدولة وفرت جميع الخدمات من مياه وصحة لهولاء في مناطق التنقيب؟ ألن تكون بذلك شجعتهم على البقاء هناك أكثر والعمل والإنفاق في ما لا طائل من ورائه، ولكان كل من أعرض عن الذهاب إلى هناك لصعوبة الظروف باع بيته أو شياهه وبقراته وجعل ثمنها في جهاز وأجر سيارة وغادر لتكون خسارته مضاعفة، باع مدخراته وتعب وأنفق ولم يحصل على شيء؟!
بالتأكيد، هناك من ينتظر العائدين من مناطق التنقيب على أحر من الجمر ويعلق عليهم الآمال لعله يقضي من خلالهم " فائتة الثورة "، لكن المئات من هؤلاء بدؤوا العودة منذ الأسبوع الماضي ولم يندبوا إلا حظهم، ولم يسخطوا إلا على من قادوهم لخوض هذه المغامرة من المواطنين عبر الشائعات والتغرير بهم بصور " سلغلغ " على الفيسبوك والوات ساب.. واعترفوا أنهم خاضوا مغامرة خاسرة لم يفكروا مليا قبل خوضها وأصبحت بالنسبة لهم درسا كالكثير من دروس الحياة التي يخوضها الإنسان ليتعلم منها، وقدموا تجاربهم ونصائحهم لغيرهم ممن لم يذهبوا إلى مناطق التنقيب بعد، ولكنهم لن يكونوا وقودا لمغامرة أخرى خاسرة يدفعهم ويحرضهم عليها خاسرون في مغامرات أخرى وإن كانت مغامرات سياسية هذه المرة وليست " ذهبية "..!
وسمعنا من يفكر ويعمل أبعد من ذلك ولا يمل المغامرات، فيحرض المنقبين على اقتحام المساحات الواقعة في نطاق حوزة الشركات الأجنبية طبقا لاتفاقيات مع الدولة الموريتانية التي لن تتفرج على العبث بالتزاماتها القانونية والأخلاقية التي تقرها القوانين الوطنية والدولية لحماية الشركاء والمستثمرين، وإن كان بإمكانها أن تفتح هذه المناطق للمنقبين الذين لن يعثروا فيها على ما فشلوا في العثور عليه في المناطق التي نفضوا منها أيديهم وخرجوها صفر الأيدي، باعتبار المناطق الواقعة في نطاق حوزة " تازيازت " مثلا هي نفسها، من الناحية السطحية، المناطق التي كان المنقبون ينقبون فيها، والشركة حازتها أصلا لا بغرض التنقيب في سطحها عن الكميات الهزيلة، وإنما في أعماقها بالوسائل والتقنيات المعقدة والمتطورة والمكلفة التي لا قبل للمواطنين العاديين ولا حتى للدولة الموريتانية بها! وبإمكان المنقبين الاستجابة لرسائل المحرضين باقتحام حوزة الشركة لتسحب موظفيها ومعداتها وتغادر البلاد، وعندها سنجد الوقت الكافي لحساب النتائج من ذلك ومن الرابح فيه، والأكيد أن الرابح لن يكون المنقبون ولا الدولة الموريتانية وسمعتها الاقتصادية والاستثمارية لمن يهمه ذلك أو يلقي له بالا..
هذا مع الإشارة إلى أن أنشطة البحث عن الذهب السطحي الذي هو في متناول المواطنين العاديين الذين يمكنهم الحصول عليه بأجهزة بسيطة ورخيصة، هي أنشطة ممارسة في الكثير من بلدان العالم منذ زمن طويل، وإن بدرجات متفاوتة تحكمها عوامل عديدة ككميات المعدن السطحي وعمقه، وطبيعة الأراضي الحاوية له، وكذا طبيعة المجتمعات وأنماط أنشطتها الاقتصادية والإنتاجية، وقد كنا آخر من يصله هذا النوع من الأنشطة، وعلينا أن نتفهم أن كل نشاط جديد له " دهشه " والخسائر التي يتكبدها ممارسوه قبل أن تتضح حقيقته وطبيعته بخوض تجاربه واكتساب مهارته..
وكون المنقبين يعودون اليوم من مناطق التنقيب دون الحصول على ما كانوا يطمحون للحصول عليه، لا يعني أن الذهب غير موجود البتة، لكن الأعداد الكبيرة من المواطنين التي تدفقت إلى هنالك وعادت بحقيقة أن الذهب موجود لكنه بكميات قليلة ويتطلب العثور عليه وقتا وجهدا، ومعظمهم من متوسطي الحالة المادية ومن بينهم أثرياء ( لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ) هؤلاء، وإن كانوا خسروا، إلا أنهم خدموا الموضوع واتضحت الصورة التي ستخلق في المستقبل نوعا آخر من المنقبين لا ينبغي أن يكونوا طلابا جامعيين يتركون مدرجاتهم من أجل الحصول على اغرامات من الذهب، ولا صيادين تقليديين كانوا يكسبون من الصيد ويوفرون الأسماك للأسواق، أو مزارعين يزرعون أراضيهم ويساهمون في توفير الغذاء، أو أصحاب مقاولات وخدمات، وليسوا بالأحرى موظفين أو أساتذة ومعلمين وأطباء يتوقف على تواجدهم ومجهودهم مستقبل بلد بأكمله.. وإنما يكون هؤلاء المنقبون من العاطلين عن العمل، وحينها يمكن للدولة أن تبدأ التفكير في آليات تنظيم هذا النشاط وتوفير الظروف الملائمة لمزاولته واستمراره، لأن ممارسيه محدودين نسبيا وليسوا ربع سكان بلد تجمعوا فجأة على صعيد واحد..!