لحراطين مكونة اجتماعية نمت بشكل ديموغرافي لافت خلال القرنين الماضيين والعقود الماضية تحديدا ،لتشكل رقما صعبا في مكونات ثلاث دول هي موريتانيا والسنغال و مالي.
تنقسم هذه المكونة في موريتانيا إلى قسمين ،
أحدهما خضع للاستعباد ويشكل الأغلبية وأحدهما لم يخضع له (الخظارة ) ،إلا أن التراتبية الطبقية في المجتمع والتي تنظر وتعامل بدونية كل أسود ولو كان نبيا ساوت تقريبا ـ اجتماعيا واقتصاديا و سياسيا بين أفراد هذه الشريحة .
وبما أن المؤرخ هو ابن لمجتمعه غالبا فقد تآمرت أقلام المؤرخين بتجاهل تاريخ هذه المكونة التي تشكل اليوم أغلبية الشعب الموريتاني ، ولعل المناهج التربوية ـ التي تعتبرها تارة جزءا من المكون العربي وتارة جزءا من المكون البيظاني مع حرمانهم من معرفة اصل تلك البيظنة أو العروبة ـ خير تجسيد لذلك التآمر.
لحراطين والإستعباد
لقد سلك الإستعباد في موريتانيا طريقا عرقيا ـ مع استثناءات في المجتمع الزنجي ـ وكان لحراطين ضحاياه الرئيسيين بل إن 4% من الموريتانيين من هذه الشريحة لا يزالون يرزحون تحت نيره .
وقد لعبت المؤسسة الدينية الدور الأبرز في ترسيخ هذه الظاهرة وذلك من خلال اعتماد المتون الفقهية المتجسدة في خليل وشراحه كأهم العلوم الشرعية المدرسة في المحظرة الموريتانية ،هذا فضلا عن الدور الذي تقوم به المؤسسة الإجتماعية في هذا الصدد ولعل من اهم تجليات ذلك الدور هو الإهتمام بالخرافة والأساطير اللتين ينتشر الأيمان بهما ،وقد تجست مظاهر ممارسة الاستعباد في مجالات شتى، منها أن العبيد هم من تسند لهم مهمة زراعة الأرض ورعي وتنمية الحيوان والخدمة المنزلية بجميع أشكالها ،كما أنهم يحرمون من ابسط حقوقهم بما في ذلك حق الراحة كما يمارس عليهم الضرب لأتفه الأسباب،كما ينسب لهم كلما كان المجتمع يترفع عنه باعتباره يتناسب مع مستواهم الاجتماعي ،كما تنسج الأساطير للبرهان على دونيتهم فمثلا نجدهم يقولون’’ اجماعه فيه لعبيد ماينفظح فيه البيظان’’ كما أن الطلامس التي يمارسها المتخصصون من البيظان ويسمونها رقيى تسمى سحرا إذا مارسها لحراطين، كما أنهم أيضا يحملون أسماء خاصة بهم مثل: امبارك و بلال ومسعود واسليلم و مربه وغرمانية و إسلم عربيه ولخويد ... و هذه الأسماء قابلة للتأنيث أو التصغير في ذات الوقت كما أنهم في بعض المناطق يدفنون في مقابر خاصة بهم
الدولة وسياسة اضطهاد لحراطين
لم تمتلك الأنظمة التي تعاقبت على البلاد منذ قيام الدولة إلى يومنا ،الشجاعة ولا القناعة بحل مشكل لحراطين بل على العكس تعمل ـ بطريقة ممنهجة يعمل على إدراتها كبار منظري الدولة العميقة ـ على طحن الشريحة وقمع آمالها في المساواة مع الآخر.
فمع أن دستور 1961 قد قضى قانونيا على الاستعباد وضمن المساواة بإعلانه في الفقرة الثانية من مادته الأولى أن ’’ الجمهورية الإسلامية الموريتانية تضمن المساواة لكل مواطنيها دون تمييز في العرق أو الدين أو المكانة الاجتماعية.
ومع أن الحكومة العسكرية في عهد محمد خونه ولد هيداله قررت إلقاء الاستعباد رسميا سنة 1980 .
ومع أن دستور 1991 في مادته الأولى يضمن مساواة المواطنين أمام القانون دون تمييز في الأصل أو العرق أو الجنس أو المكانة الاجتماعية.
ومع أن القانون 048/2007 الصادر 2007 يعاقب بشكل صريح كل انواع الممارسات الاستعبادية .
ومع النظام الحالي دستر قضية الاستعباد واعتبرها جريمة لا تسقط بالتقادم .
فإن كل هذه التشريعات لم تتجاوز صفحات الورق ولم يكن لها من دافع سوى الاستهلاك الخارجي بالانسجام نظريا مع المواثيق الدولية والحفاظ على السمعة الخادعة للبد وتفادي الخذلان والحصار الدوليين و الحصول على تمويلات خارجية ، واقرب الأدلة على ذلك هو نفي الرئيس الحالي لوجود العبودية بعد دقائق من تدشينه لأحدى محاكمها في النعمة يوم 03 مايو الجاري .
تشريعات كثيرة كما اسلفنا لكن على الأرض ثمة شيء آخر
لم تشهد الدولة الموريتانية عبر تاريخها أي عقوبة في حق متهم بممارسة الاستعباد وبديلا عن ذلك يدفع مناهضي الظاهرة فاتورة مطالباتهم بتطبيق القوانين، حيث تواجه احتجاجاتهم المكفولة قانونيا بالقمع والتنكيل بل والسجن كما هو الحال مع بيرام ولد الده ولد اعبيد وابراهيم ولد بلال الذين يقبعان في السجن منذ أزيد من 18 شهر بسبب تنظيمهما لقافلة ضد الإستعباد العقاري ...بل كيف لا؟ وما هي الأحكام المنتظرة من قضاة متشبعون بالثقافة الخليلية وينتمون لذات المجموعة الاستعبادية ومدعومون بنظام سياسي ينكر وجود الظاهرة ويوفر الإفلات من العقاب لممارسيها؟
لقد عانت مكونة لحراطين طيلة عمر الدولة من إقصاء رهيب حيث مرت ال 18 سنة من حكم المختار دون ان يلج أي حرطان الإدارة وكان أو وزير يتم تعيينه من هذه الشريحة هو مسعود ولد بلخير سنة 1984 ومنذ ذلك الوقت إلى يومنا لم يتجاوز قط عدد وزراء لحراطين في أي حكومة الثلاث وزراء والحال نفسه مع بقية الوظائف الإدارية والعسكرية والسياسية ...في الدولة ،وقد دأبت الحكومات على تبرير هذا الإقصاء بالجهل وكأن الذي يمارس التجهيل في آدوابه والكزرات والكبات ويحرم براعم لم يغترفوا من الذنب سوى أن بشرتهم سوداء من حقهم في التمدرس ـ والذي تضمنه كافة المواثيق ـ ويتشدق بإجبارية التعليم في المحافل هو نظام آخر
إن نهج الأنظمة هذا جعل لحراطين يعيشون على هامش الحياة وخير تجسيد لذلك هو تلك الأعمال التي يمارسونها بلا منافس مثل : الزراعة والرعي والخدمة المنزلية والسلاخة وغسيل الملابس وبناء المنازل وحراستها والعمل في المخابز وحمل الأمتعة والصيد التقليدي وبيع الكسكس.... وقد نتج عن هذه الوضعية الاقتصادية من بين مخاطر جمة ،ما بات يعرف بأطفال الشوارع والذين يشكلون اليوم أكبر مشاريع الجريمة ويعتبر سجن دار النعيم الذي يشكل أبناء لحراطين أزيد من 95% من نزلائه أهم الشواهد على ذلك
التمرد على الواقع
فضلا عن ظاهرة ’’ اجمبير’’ ساهم جفاف السبعينات في تحرير آلاف العبيد كما شجع المناخ الدولي وظهور الوعي نسبيا لدى أبناء هذه الشريحة على ظهور تنظيمات حقوقية وسياسية تتبنى المطالبة بإنصافها وقد حرم جل تلك التنظيمات من الترخيص أو حل في بعض مراحل نضاله.
إن المتتبع للشأن الوطني يدرك حجم الإحتقان السائد والإحتجاجات المتزايدة في صفوف أبناء هذه الشريحة والرافضة الإستمرار اللظلم والإقصاء والإهانة وإذا كان الإعلام تخلى عن مهمته كمرآة عاكسة للحقيقة واتخذ موقف الخصم من القضية حيث بات دوره هو غلب الحقائق وتضليل المتلقي فإن شوارع نواكشوط وكبريات مدن الداخل ومخافر الشرطة والسجون وأسرة المستشفيات تشهد على حقيقة مايجري.
الخاتمة
بعد قرون من الممارسات الاستعبادية التي سلبت الإنسان الحرطاني كرامته باسم دين جاء ليرأف به وبعد عقود من الحرمان والتهميش والإزدراء في ظل دولة هو بناها كغيره بعرق جبينه آن لنا أن نقف وقفة مع الذات ونمتلك الشجاعة والقدرة على المواجهة والتخلي عن الحيل والدفاعات التي طالما علل بها المجتمع والدولة مآسي هذه الشريحة ... علينا قبل فوات الآوان أن نصحح مسار البوصلة بعيدا عن الأنانية والنظرة التي لا تتجاوز الأنف ..ولنعرف أن قضية لحراطين اليوم أشبه ما تكون بجمر تحت الرماد ولا يمكن إخماده إلا بماء العدل والمساواة ولنتأكد أنه ما من أحد منا كان يتوقع أن العالم سيخسر في الخمس سنوات المنصرمة مئات الآلاف من الأرواح في سوريا وليبيا و مصر واليمن لكن ، قنبلة الظلم علمتنا أنها تنفجر دوما دون سابق إنظار
حفظ الله موريتانيا