قد يكون عرض الصفحات المطوية أمينا ومعبرا عن وجدان المجتمع إذا اقتضى دائما مد الجسور مع المحيط التاريخي والحضاري ، لأن الانتماء العميق لأي أمة لا يكون متجذرا إلا ذا ارتكز إلى وفاء أصيل ، وجهد مشهود وإلا كان جحودا وتخلفا ، لا يليق الركون إليهما ، ومع ذلك فالأمة الحية هي التي
تكتب تاريخها وتمحصه حتى في شقه الآخر، فقد تأكد باستمرار أن المعارك التي خسرتها بعض الأمم قد تحولت إلى تجارب وتمارين أثناء منازلاتها الحاسمة .
كما أن بناء التراث ومنظومة الإنتاج الحضاري ، والمحافظة على السمات الأساسية ، يستدعي من كافة الوطنيين ـ أحرى في أوقات الاستلاب اللغوي والمعنوي ـ التمسك بالثوابت ، والمساهمة في الإنتاج المادي والفكري، والتطلع إلى ما هو أبعد من إبراز الثقافة الناصعة والدور الريادي والتاريخ المجيد ، ليلا يكون ذلك تفريغا للمحتوى الابداعي من كل طاقة أو رمق ، ذلك أن كل ما هو لاحق قد لايتطوربالضرورة باستمرارعلى السابق، خلافا لما تروج له بعض النخب المستلبة ، التي ترتهن للآخر ، وتقترف ما هو اشد استبدادا من الحكام ، عندما تتخلص في كل سانحة من خصومها المثقفين والمناضلين الشرفاء وتحتكر المنابر واللغة ، وتنشر الآراء المغشوشة عن مفاهيم الوطنية والأمة والحضارة .
وبما أن من يبالغ في الخصوصيات والذاتيات يكرس آثارا رجعية ، فإن النخب التي انخرطت في التعاطي مع الإطارالقطري الضيق الذي ارتضاه الاستعمار بأدواته ولغته أصلا، تكون قد رضيت هي الأخرى بوضع البلاد في الإطارالمنعزل ، سيما أن شعار الوحدة التي تتخطى الذاتيات صار في كثير من الحالات ممارسة تقدمية فعلية ، حتى أن بعض الكتاب والمناضلين الكونيين والعروبيين تجاوزوا المحلية جراء فكرهم ونضالهم وأمانة انتمائم لىشعوبهم وأممهم.
ومن هذه المنطلقات فإن الحضورالجماهيري العفوي المتميز للندوة التي نظمها المرصد الموريتاني للغة العربية السبت 14/05/2016 بدار الشباب القديمة تكريما للأستاذ محمذن ولد باباه على جهوده في خدمة اللغة العربية ،لايعد امتنانا لجهود هذا الرجل الجبارة ـ في حينها ـ فحسب ، بل إن ذلك في جوهره كان تعبيرا صادقا عن تعلق الموريتانيين باللغة العربية التي تأكد من خلال هذا المشهد أنها مشترك يبنى عليه ، وعامل وحدة واكتفاء ذاتي في ميدان الهوية ، لذلك فقد حضر هذه الندوة أغلبية قادة التيارات السياسية التقليدية في موريتانيا ، من القوميين والإسلاميين واليساريين ، وكذلك رؤساء بعض الأحزاب الحديثة من الموالاة والمعارضة ، فضلا عن البرلمانيين ،والمحامين ، والأساتذة الجامعيين، والأدباء، والكتاب والصحفيين ، والطلبة والشباب ، والجمعيات النسوية ، ومنظمات المجتمع المدني .
وقد شكل هذا المشهد فرصة لبعض السياسيين من أجل استنطاق التاريخ ، وطرح العديد من الأفكار التي لم يتم الإنتباه لدلالاتها ، بسبب انفعالات اللحظة والمكان ، ومع ذلك فإن بعض المواقع قد سجلت ـ على الأقل ـ جزءا من آراء المفكر البارز محمد يحظيه ولد ابريد الليل الذي أثنى على الأستاذ محمذن ولد باباه ، وخاطب النخبة السياسية الموجودة في القاعة قائلا : "..ترددت مرات لمدة سبعة أشهر على محمذن ولد باباه الوزير في حكومة المختار ولد داداه رغم انى أحمل في رأسى قنبلة انقلاب 10 يوليو .. من أجل الحوار والحوار في كل الأحوال مطلوب وضروي لكن الإتفاق ليس شرطا ".
وقد فسر بعض المحللين مداخلة محمد يحظيه هذه ، انطلاقا من حضورالرجل غير المعهود لمكان الندوة ، ونوعية المشاركين ، وخلفيته كمفكراستراتيجي ومساهم فاعل في صناعة الحدث ، أن ما قصده ذلك المناضل العتيق قد يكون ـ من بين أمورأخرى ـ دعوة موجهة بالدرجة الأولى للنخبة السياسية في بلادنا للحوار فيما بينها من أجل تشكيل جبهة وطنية وقومية ، في هذا الظرف بالذات ، كبديل عن الاستنساخ الحرفي للإيديولوجيا القديمة ، ولكي تكون حصنا منيعا للبلاد ، وفضاء رحبا يتسع لجميع المكونات ، لأن المشتركات الكثيرة التي تربط العلاقات الحميمة بين مكونات شعبنا لايمكن تجاوزها ولا الاعراض عنها ، ومعلوم أن من أهم المشتركات الخالدة لهذه المكونات ، هي الدين الإسلامي الحنيف ، واللغة العربية ، والوحدة الوطنية .
ومع أن تفسير المحللين السابق يظل افتراضيا ، لأن نص المداخلة لايدعمه تماما ، إلا أن سلسلة الحلقات التي كتبها محمد يحظيه ولد ابريد الليل نفسه بعنوان : " التحديات الاستراتيجية للديمقراطية الموريتانية " تعطي رؤية كاملة عن جميع ما يقصد للإنتقال من دائرة التأثر والانتظار الي دائرة التأثير والمساهمة .