تحكي لنا إحدى قصص العرب في الجاهلية أن حاجب بن زرارة سيد قومه أراد النزول بهم في سهل لما أصابهم القحط، فأراد إستئذان كسرى في ذلك، فقال له قومه: نخشى عليك "بكر بن وائل" - قبيلة -، فقال: ما منهم وجه من الناس ولا شريف إلا ولي عنده يد خضراء إلا ابن الطويلة التيمي، وأنا أرجو
أن أداريه، ثم ارتحل، فجعل لا يأتي على مياه لبكر إلا أكرمه سيدهم ونحر له وقراه، حتى اقترب من "قصوان" – مكان -، وعليه ابن الطويلة، فلما أضاء الصبح وناديهم قريب، دعا بنطع ثم أمر فصب عليه التمر، ثم نادى حيَّ على الغداء، فقال ابن الطويلة لأهل مجلسه: أجيبوه فإنه سيد قومه، فأتوه فأكلوا، وأهدى إليه ابن الطويلة جزورا وشياها، فنحر وأكل وأطعم.
ثم ارتحل حتى أتى كسرى، وشكا إليه الجدب، وطلب منه أن يأذن لهم فيكونون في الريف حتى يُحْيَوا، فخشي كسرى من أن يفسد العرب في الأرض كعادتهم، فقال له حاجب: إني ضامن
للملك ألا يفعلوا، قال: ومن لي بأن تفي بما تقول؟ قال: أرهنك قوسي بالوفاء بما ضمنتُ لك.
ولما جاء حاجب بقوسه ضحك القوم الذين حول الملك، وقالوا: بهذه العصا تفي للملك بما ضمنت له ؟ فقال الملك لهم: ما كان ليُسلمها لشي أبدا، وأذن له بنزول الريف (وهو الأرض التي فيها الزرع والخصب).
ولما مات حاجب، وزال القحط، رجع قومه إلى بلادهم، وارتحل ابنه عُطارد إلى كسرى يطلب قوس أبيه، فردها إليه وكساه.
تحكي لنا القصة بعض أخلاق العرب العالية التي كانت فيهم رغم الجاهلية والظلام، وورثنا بعضها عنهم في صحرائنا الرائعة هذه، وقد أدرك حاجب بن زرارة الإسلام وأسلم، ومات في السنة الثالثة هجرية,
ومن فوائدها معرفة أنه يوجد بعض الناس يمكن وصفهم بالأسياد، وهذا النوع للأسف يقل في زمننا المتأخر هذا حيث تعم الأنانية والبحث عن المصالح بكل الطرق الممكنة حتى التشبه بالكرماء والأفاضل وإن كان المتشبه بهم أخس وأحط الناس، وهذا كثير خصوصا في رجال السياسة، أكثرهم يفرض نفسه باستغلال قبيلته أو ماله أو معارفه، وهو في الأصل وضيع ناكر للجميل .
أما السيادة فأمر سامي لا يصل إليه كل أحد بل هو محجوز لأصحاب النفوس الرفيعة، ولا بد فيه من البذل والعطاء والتضحية من أجل الآخرين – والبحث عن الدار الآخر خير من البحث عنها وأبقى -، ونتائج العطاء محمودة في جميع الأحوال، ومنها نكران المتلقي للجميل، ولكن الله سبحانه وتعالي لا ينسى، وسيكافئ فاعل الخير سواء كافئه الناس أم لا.
ويوجد من أصحاب النفوس العالية من يعتبر أقل خير يفعل له، جميلا يقيده، ولا يرتاح أبدا حتى يفي به تمام الوفاء، فما أعلى نفوس أولئك وما أحط نفوس اللئام، وما أكثرهم..
ونرى من خلال القصة أن المداراة مهمة جدا، فالعدو قد يعود حبيبا إذا تم إكرامه، ولكن يجب الحذر فهذا ينطبق فقط على ذوي النفوس السامية لا على اللئام الذين هم أكثرية، والحذر منهم أولى من المخاطرة بمداراتهم، ووضع الرقبة بين أيديهم..
نرى أيضا في هذه القصة الجميلة أن كسرى كان من أهل الأخلاق العالية، وهذا طبيعي فهو ملك وابن ناس ومتعلم كما يقولون، وقد لاحظ سمو نفس حاجب بن زرارة فقبل منه القوس وصدقه رغم تكذيب اللئام له، وردها على ولده وأكرمه..
وهنا ملاحظة مهمة، فكثيرا ما نجد أولاد الأسر المتمسكة بالأخلاق العالية مؤدبين كرماء فيهم خير، والعكس موجود في أولاد الأسر المشغولة بالبحث عن الرزق والدنيا عن اتباع الحق والإتصاف به، سواء كانت فقيرة أم لا.
وقد جلبت الديمقراطية التي أصبحت بابا يدخل منه كل أنواع البشر إلى التحكم في مصالح الناس، لينطبق على داخله وصف "الرويبضة" الذي جاء في الحديث المعروف، يكفي الواحد منهم فقط أن يكون نباحا له وجه من صخر!، يكفيه هذا من أجل اعتلاء المنابر والتشبه بالأفاضل، والإدعاء أنه سياسي مناضل وحقوقي مكافح، وربما بسبب اللعبة السياسية الوضيعة التي تتلاعب ببلدان المسلمين اليوم، يجد مثل هذا الخسيس نفسه وزيرا أو نائبا في البرمان أو شيخا في مجلس شيوخ السياسة النصرانية، وهو أحط الناس وأوضعهم !.. فهذا النوع من البشر كانت النظم السابقة - وهذه من بركاتها - تلفظه لأن الحياة الطبيعية تلفظه مثل لفظها لكل لئيم، أما اليوم فالمساواة هي السائدة، لم يعد هنالك فرق بين الكريم واللئيم.. وعلينا انتظار سيادة لئيم خسيس علينا قريبا إن لم يتداركنا الله برحمته..
وتعجب يا أخي من رؤية هذه المنافسة الشرسة على ما عند الدولة من جاه ودراهم، فالحديث حتى في المواقع الإجتماعية التي يفترض أن أغلب روادها شباب صغار لا يزالون في طور النضج والتعلم من الجامعة والحياة، ليس إلا عن السياسة والنضال والمظاهرات، والرئيس الذي لا فرق عندهم بينه وبين البواب، والمعارضة والأحزاب والمتبرمين، هذا ما يتعلمونه لينافسوا أولئك اللئام، فيا لها من غفلة وضياع، سيخرجون من هذه الحياة وهم لم يولوا دينهم وقتا مستحقا من أعمارهم !
أما على مستوى وجهاء القبائل والأغنياء، فهؤلاء كل واحد منهم يلعب لعبته السياسية التي تغلب عليها القذارة إلا نادرا، بوسائله وإمكانياته، إما مغربا نحو البحر – إن شاء الله – مع المعارضة، أو مشرقا مع المولاة المنافقة نحو التصفيق، تلك المولاة التي يمكن لأبسط مواطن أن يقسم لك أنها ستنقلب على سموه عند أول عثرة يتعرض لها – لا قدر الله.
أما غير الوجهاء والشباب من الطامعين، فهؤلاء يشتركون في صفات عديدة – سواء منهم الرجال أو الإناث، والإناث أنسخ -، منها قوة الوجه وإظهار النضال الزائف على طريق شيطاني زائف هو الآخر، وكل أحد في هذا البلد سواء كان خارج اللعبة أو داخلها يعلم أنهم لا يناضلون إلا في سبيل جيوبهم وشهواتهم المكبوتة..
ولولا أن منا أناس "عاطين لرؤوسهم العافية" لكان الشعب كله ينعق في دكاكين الأحزاب وأروقة الحكام، وغيرها من المنابر التي يغتر بها أكثر هؤلاء، والتي تبعد أغلبهم بسبب الإعتماد على الكذب والنفاق وانتهاز الفرصة بأي وسيلة كانت، عن التخلق بالأخلاق الرفيعة التي يتخلق بها الأسياد حقا، وأولها قوة الإيمان والعمل، والصدق مع النفس والناس، وحب الخير للنفس وللناس، والتضحية حقا من أجل شيء، لا مسرحيات وألاعيب مكشوفة للجميع، لا تهدف إلا إلى الربح وتحصيل ما سيتركه صاحبه خلفه..