لقد دخلت الجمهورية الإسلامية الموريتانية منذ فجر السادس أغسطس 2008 مرحلة وصفت "بالتصحيحية" جعلت حدا نهائيا لسلطات الرئيس السابق سيد محمد ولد الشيخ عبد الله، بعد جملة من الإنسدادات والإنحرافات التي كادت أن تغرق البلاد فى غياهب المجهول.
مرحلة جعلت من المسؤولية الجماعية لكبار الضباط فى المؤسسة العسكرية " المجلس الأعلى للدولة " بعدا مرجعيا لحماية الاستقرار.
وإثر ذلك عرف المشهد السياسي الوطني انقساما غير متكافئ بين مؤيد استند إلى رأي عام وطني قوامه أغلبية النواب والشيوخ والعمد والأحزاب وهيئات المجتمع المدني والسلطة القائمة ، فى مسعى جاد إلى المحافظة على الدولة فى بعدها الوجودي ؛
وبين مناوئ استند إلى اعتبار رأي الآخر فى المحيطين الإقليمي والدولي وأقلية من المنتخبين والأحزاب بحجة رفض الانقلابات للمحافظة على الديمقراطية كمنهاج وحيد لممارسة الحكم .
وبين هذا وذاك .. ظل اختلاف وجهات النظر وتباين الآراء ظاهرة صحية وظل الشأن الوطني ـــــــــ موضوع الاهتمام ــــــــــ شأنا واحدا غير قابل للإنفصام .
ويومها كان السبيل المشترك الذي سلكه الجميع لخدمة هذا الشأن فى مثل تلك الحالات هو سبيل الحوار، سبيل التشاور ، سبيل الإلتحام والوئام .
وإذا كان الوضع الحالي مثيرا للإهتمام حول العديد من القضايا ذات الطابع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني والثقافي ، فإنه كذلك قد كشف عن ذاكرة حبلى بالتحديات الجوهرية ذات الطابع القانوني البحت ، كانتخاب مجلس الشيوخ ومحكمة العدل السامية ومراجعة الصلاحيات الواسعة الممنوحة لمؤسسة رئيس الجمهورية ، وضرورة مراجعة تركبة وصلاحيات البرلمان والعلاقة بين السلطات التشريعية والتنفيذية ووسائل التأثير المتبادلة إضافة إلى ضرورة وجود هيئة للتحكيم بين المؤسسات الدستورية وطرق تنظيم الجهاز التنفيذي ، وغيرها من القضايا التى لاتقل أهمية .
وهنا يجب أن تكون المواقف وطنية بامتياز، ويجب أن يتم رصدها من طرف المؤسسات العمومية للدولة حسب الاختصاص .. سياسيا كان أو أمنيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا ، حتى لا يتشكل عندنا رأي عام متعدد الخلفيات بما يخدم توسيع دائرة الخلاف وفضاء التصادمات . باستحضار جزئية رغم جوهرياتها تترجمها إحدى عبارتين ـــ لا أو نعم ـــ لتعديل الدستور.
وفى كلتا الحالتين يلزم على قادة الرأي الوطني ــ وحكماؤه على وجه الخصوص ــ أن يطلعوا على تاريخ النظام الدستوري الموريتاني بوصفه حديثا فى مجمله بدأ قبل استقلال البلاد بدستور مارس 1959 وآخر فصوله كان فى التعديلات الدستورية الأخيرة فى عهد البرلمان الحالي سنة 2012 .
وقد ذكرت ذلك حتى لا يتجذر فى الأذهان أن المساس بالدستور هو الخطر المتربص بالبلاد ، فالأمر أعظم مما قد يتصوره البعض ولن تظل كل الخيارات متاحة مع مرور الأيام .
فالتغيير البناء شعار رفعه النظام القائم ، ومطلب طالما نادى به قادة الرأي فى الأحزاب والمنظمات والهيئات ، وتعطشت إليه كل مكونات الشعب الموريتاني بلا استثناء ،، فهل من سبيل إليه ؟ إلا أن يكون بالانتخاب أو الإنقلاب أو بالارهاب .
سادتنا الكرام إن الارهاب المتربص بنا وبالمنطقة وبالعالم لايمكن أن يعشش إلا فى غياهب الظلم والاستبداد والحيف واللامبالاة ... بوصفها أدوات فعالة لزرع التفرقة والخلاف واظهار الشقاق وتنازع الأمر.
وهنا أشيد بجهودنا جميعا ــ موالاة ومعارضة ـــ فى سد هذا الباب والوقوف فى وجهه تارة بالتكاتف وتارة بالتسامح وتارة بالصبر والتجاوز عن الأخطاء ... بوصفها أدوات فعالة لضمان الوحدة الوطنية والتلاحم ووحدة الصف فى وجه العدو.
إننا ــ ونحن نسد باب الارهاب والفوضى أمام أي تغيير نصبو إليه ــ نسجل بارتياح أن التغيير بالانقلابات أضحى بقوة القانون ، بقوة الدستور ، جريمة لاتسقط بالتقادم بعد التعديلات الدستورية 2012، إذن لم تعد الانقلابات العسكرية باب أمان للتغيير ، لا على من يفكر فيها ولا على من يطالب بها وبالتالي لم تعد ثمة أية جدوائية لتغيير قد يحصل بانقلاب مهما كان مستوى القبول الشعبي له مع أن ذلك لن يكون .
أيها الخيرون ، أيها العقلاء الذين حملوا ويحملون هم هذه البلاد على نبضات قلوبهم ...
إن الخيار الوحيد وهو ما ينفعنا اليوم ويجب أن يمكث فى العقول قناعة وفى المواقف ممارسة هو خيار الانتخاب ، الخيار المجسد لمقاصد العملية الديمقراطية ولكنه خيار تنهك قواه تجاذبات أطراف قوية فى الموالاة الممانعة وأطراف قوية فى المعارضة المتخندقة على أرضية حوار متعثر ومغيب بسبب غياب كلمة واحدة ,,, هي الثقة .
إنني استنهض فى الحكماء حكمتهم وفى الساسة حنكتهم وفى الفقهاء فقههم وفى المستشارين حسن إشارتهم قبل فوات الأوان
لاسبيل إلا سبيل بناء الثقة بين الاطراف ,,, واجراء حوار شامل بناء .. والله المستعان فى كل الأمور