تأصيل معرفي
توطئة
عبارة عن مشروع مجتمعي بأسلوب التخطيط الإستراتيجي المتبع في بناء الدول والكيانات الاجتماعية مساهمة مني مع غيري من النخبة الثقافية والعلمية الموريتانية في التأطير والتأصيل لمفاهيم علمية حديثة تتجاوز انساق وبني الحداثة المعرفية
بغية انتشال المجتمع والدولة الموريتانية من براثن التخلف والجهل والمرض إلي رحاب المدنية الرحبة حيث العلم وآلياته هما المقود والقاطرة لأي مسعى تنموي يراد به تجاوز الواقع الراكد ومواكبة روح العصر شكلا ومضمونا كأبرز التحديات الوجودية في زمن العولمة المتسارع الأنفاس والمتلاحق الوتائر. حيث أدرك المخططون الاستراتجيون أن التراكم المعرفي الهائل أوجد طفرة معلوماتية كنتاج للثورة الهائلة في عالم الاتصالات التي جعلت العالم بحق قرية كونية وغيرت مفهومي الزمان والمكان التقليديين حيث قرا في وطرنا كمفهومين ثابتين ذي أبعاد ثلاث في مخيالنا الجماعي ليحل محله زمكاني افتراضي سايبيري (ذي ابعاد أربعة شديدة التداخل) يوغل في بسط نظمه وأنساقه المعرفية دون هوادة. هذا البعد الإستشرافي هو ما جعل المخططون والمسئولون عن إدارة الشأن العام يدركون أن آليات التفكير الكلاسيكي في مواجهة استحقاقات الواقع التنموية لم تعد تجدي للتصدي لإشكاليات تتجدد كل ثانية مما يستدعي تفكيرا مغايرا وطرائق مستحدثة وأنساقا شمولية صارت ميسم علوم الاناسة في آخر عقدين.
******************************
تأخر الدولة الموريتانية وعلي كافة الاصعدة وتخلفها عن الركب الحضاري حقيقة لا تجدي حيالها المكابرة وقد كتبنا في هذا الامر سلسة مقالات منذ أواخر العام 2013 تحت عنوان جامع (سلسلة أزمة مجتمع), حيث قمت في الحلقة الأولي من هذه السلسلة (http://www.aqlame.com/article16038.html) بتشخيص الواقع التنموي الموريتاني عبر استخدام لغة الأرقام التي غدت اللغة الأكثر إقناعا في عالم اليوم كمؤشرات دلالية يفصح استنطاقها عن إعطاء صورة واضحة المعالم عن مدي هشاشة وإهتراء وتهتك ما يسمي بالدولة الموريتانية وتآكلها علي كافة الصعد,أرقام صادمة ومؤلمة حد التجريح لكنها حقيقتنا المرة التي لا يمكننا الهروب منها بل يجب مواجهتها بشجاعة ودون الاكتفاء بجلد للذات والعويل والصراخ علي فرص ثمينة أهدرتها نخبتنا السياسية والثقافية في سانحة من الزمن وبغباء لا أجد له مبررا غير الجهل المركب والغرور والصلب وعدم إلمام بآليات التفكير الإستراتيجي, وعكس الكثير من الكتابات الحالية التي تحمل الكثير من التشاؤم واليأس والقنوط حد الإحباط والتي تتقاطع في إرسال رسالة سوداء مفادها أن فرصة تحديث موريتانيا قد فاتت وان قطار المدنية قد تجاوزها منذ ردحا من الزمن وأن لا فائدة من المحاولة! لمثل هؤلاء أقول أنه بالعكس,الفرصة لازالت مواتية وبأفضل مما كانت شريطة أن نتعامل كمخططين ومواطنين ونخبا بطرق تفكير مغايرة للعقلية المتخلفة الحالية وأن ندرك مأزقنا الوجودي وان نتوقف عن التعامي عن إشكاليات الواقع وان نعلن وبشكل جماعي عن رغبتنا في البناء وان نشمر عن ساعد الجد ونقرر نحن الموريتانيون ودون التعويل علي احد غير المولي عز وجل عن عزمنا أن نكون جزءا فاعلا من عالم اليوم وليس علي الهامش كما ارتضينا ولستة عقود من الزمن أن نكون.
شواهد التاريخ
إنطلاق الثورة العلمية التي أفضت الي ثورة مفاهيمية شاملة في القارة الاوروبية منذ ثلاثة قرون ونيف أحدث تغييرات جذرية في المفاهيم غيرت شكل الحياة برمتها علي كوكب الارض-وإن بنسب متفاوتة من منطقة الي أخري - وحققت للقارة العجوز سبقا علميا مكنها من فرض سيطرتها علي بقية ارجاء المعمورة فيما بات يعرف بمرحلة "الاستعمار"التي تعد صفحة سوداء في التاريخ البشري.
كانت الثورة الصناعية أبرز مخرجات الثورة العلمية التي شكلت منعطفا تاريخيا حادا جعل العلم ومخرجاته القاطرة للانتقال من التخلف والجهل والمرض الي رحاب المدنية والتقدم من اوسع ابوابه بآفاقه الرحبة, واتسمت هذه المرحلة بوفرة الرساميل النقدية التي راكمت الثروات جراء استغلال الموارد الطبيعة والتي ساهمت في تفاوت دول العالم في سلم ودرجة رقيها وتمدنها,إلا أن الحرب العالمية الثانية كانت علامة فارقة في التاريخ البشري حيث عملت علي تصفية الإرث الاستعماري وبروز دول جديدة أخذت بأسباب العلم وبزت دول القارة العجوز,وعرفت الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية بالتخطيط الكثيف والمتدرج الذي عمل علي تسريع وتائر التنمية وتحقيق المنعة الاقتصادية.هذه الحقبة ووفق بيانات واضبارات البنك الدولي شهدت انتقال 15 دولة من حالة التخلف والجمود والتحجر الي المدنية والتنمية والازدهار الاقتصادي حتي غدت فواعل حضارية ودخلت جوقة الكبار عن جدارة واستحقاق من هنا بات جليا أن جميع الدول التي خرجت من حالة التخلف الي التقدم بدأت عبر سياقات معينة تعرف بــــــ" الاشتراط الموضوعي للحالة" التي تبدأ بمشروع مجتمعي وتنتهي به. ويدرك الخبراء والمخططون العامون أن المشروع المجتمعي هو حجر الزاوية ونقطة الانطلاق التي تعتمد عليها بقية المخرجات في كافة المجتمعات التي صارت جزءًا من ركب الحضارة المعاصرة أو التي تروم ولوجها.
المشروع المجتمعي بمثابة إجابة عملية وواقعية عن السؤال,كيف نريد أن تكون دولتنا غدا؟ والمشروع المجتمعي عادة ما يتسم بالشمولية والإحاطة عبر خطط قابلة للتطبيق وفق آماد وأسقف زمنية محددة بدقة ويقدم تصورا شاملا للنظام السياسي والاقتصادي للمجتمع وبنيته السياسية وعلاقاته الاجتماعية وقيمه الاخلاقية وتصوراته الميتافيزيقية,يفضي الي نهضة شاملة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتتصف برامج وآليات المشروع المجتمعي بالشمولية والمعيارية وتكون قادرة علي تحقيق غاياته وأهدافه وإنزالها علي ارض الواقع مما ينعكس علي حياة الافراد بالرفاه المادي وعلي المجتمع بتحقيق المنعة الاقتصادية.
المنعطفات التاريخية الحادة
كل شعوب الأرض وأممها مرت بمرحلة التخلف التي خبرتها الدولة الموريتانية منذ نشأتها وحتى الآن وتفاوتت واختلفت معظم شعوب الأرض في طريقة خروجها من دائرة التخلف إلي رحاب التطور والمدنية الحديثة إلا أن طرق التحول تلك والتي شكلت منعطفات تاريخية حادة في تاريخ تلك الشعوب والأمم اتسمت بقواسم مشتركة عامة أبرزها:
1. إن الله قيض لتلك الشعوب وجود رجالات دولة استثنائيين يجيدون قراءة التاريخ واستلهام تجارب الشعوب التي سبقتهم في المضمار,رجال علي قدر كبير من الوطنية وحب الوطن والخير,رجال افنوا ذواتهم في سبيل نهضة ورفاه وسؤدد أوطانهم.
2. الاعتماد على العلم وعلى التعليم وعلى النهوض العلمي: حيث تشير كثيرٍ من الدراسات والإحصائيات إلى أن مردود التعليم الأساسي يعطي 5 أضعاف مردود الاستثمار الصناعي.كما أثبتت الكثير من الدراسات في البلدان الصناعية المتقدمة أن 60% إلى 80% من التحسن في مستوى المعيشة والاقتصاد للدول يعود إلى التقدم التقني العلمي وإلى الإنسان ،وأن 20% فقط يعزى إلى تراكم رأس المال وإن 64% من القيمة المضافة في البلدان المتقدمة مصدرها النهوض العلمي ورأس المال البشري.
3. وجود مشروع مجتمعي واضح الملامح يحتوي خطة تنمية شاملة في آماد زمنية محددة وبمستهدفات ومخرجات إستشرافية وفق الدراسات العلمية وتلتف حول هذا المشروع المجتمعي معظم شرائح ومكونات المجتمع.
4. تطبيق النظام في جميع مظاهر الحياة العلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
5. تقدير أهمية الوقت فهو رأسمال الشعوب والأفراد لذا يتم تحديد كل شيء وفق قاعدة الاستخدام الأمثل للوقت بدءًا بالمنزل والمدرسة والمكتب ومرورا بالمصنع والمؤسسة والجمعية والنادي إلي هرم السلطة السياسية.
6. احترام التراتبية الوظيفية واحترام تسلسل الرتب بين العاملين مما يؤدي الي طاعة العاملين التامة للرؤساء والتجاوب بين الرؤساء والمرؤوسين والاحترام المتبادل بين الجميع والتعاون المشترك في جميع الأعمال. الشيء الذي يؤدي الي محبة المرؤوس لرئيسه وعطف الرئيس على مرؤوسه.
7. العمل دوماً ضمن فريق عملٍ واحدٍ, فكرة Team work.
8. احترام القوانين والأنظمة وسلوكيات العمل والقيم الإنسانية.
9. الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي.
التأخر والتقدم
تكاد تجمع الدراسات العلمية في حقول الاناسة والاجتماع والاقتصاد وعلم النفس السلوكي أن ظاهرة التقدم التي تتسم بديناميكية مفرطة وتجدد لافت وظاهرة التأخر التي تتصف بالجمود والتحجر والمراوحة في ذات المكان هما نتاج عقلية بالمقام الأول وان وجود الموارد الطبيعية من عدمها ليست اشتراطا موضوعيا بقدر ماهي عاملاً مساعدًا في الحالة الأولي ومعول هدم في الحالة الثانية.(والاستثناء الوحيد في العالم هو الدول العربية النفطية ونيجيريا,حيث تشير بعض الدراسات الصادرة من مراكز بحثية عالمية رصينة أن العرب لو استثمروا 5% من عائدات النفط في العلم كما فعلت الصين واليابان وماليزيا لكانوا ماردا عملاقا ضمن جوقة الكبار.).
الحالة الموريتانية
يدرك الساسة والخبراء والمصلحون الاجتماعيون ورجال التاريخ أنه إبان المحن والفتن الكبري تدلهم الخطوب وتتكاثر الأنواء وتُفْقدُ بوصلة التوجيه ويختلط الحابل بالنابل ويغدو حاضر ومستقبل الوطن علي المحك حيث تتمترس كل فئة وراء قناعاتها ومسوغاتها التي تراها وجيهة وتختزل فيها الحق كله مما يفضي الي شيطنة الاطراف الأخرى التي هي صنو المواطنة وشركاء الوطن ويغدو الخطر ماحقا عندما يستغل المكون الديني ضمن مسوغات التبرير الشيء الذي يقود الي حروب مقدسة في نظر الفرقاء,تجعل المتقاتلين يقدمون علي انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان الفطرية والمكتسبة دون ان يندي لهم جبين! تصل في أحيانا كثيرة الي حد القتل والتعذيب والاعتقال والقتل علي الهوية والتطهير العرقي والتهجير الجماعي دون وجه حق ويستشري الفجور في الخصومة وتنتشر ثقافة الحقد والكراهية والتشفي والإقصاء مما ينذر بمخاطر جمة تفضي في ابسطها الي دولة فاشلة واستحالة للتعايش بين مكونات المجتمع المتناحر في ما بينه. وللأسف نري أن المجتمع الموريتاني بمكوناته الثلاث يتسم بدرجة كبيرة من القطيعة بين مكوناته مما ينذر بخطر داهم قادم إن لم نتدارك الوضع ونعي أن لب المشكلة يكمن في حالة التخلف والركود والجمود التي تمر بها دولتنا!
تخبرنا وقائع التاريخ وأحداثه أن العديد من شعوب المعمورة مرت بذات المرحلة المريرة التي تمر بها موريتانيا راهنا وأنها إستطاعت أن تجتازها عندما قيض الله لها رجالات دولة استثنائيين ذو بصيرة وبعد نظر عملوا علي جمع الناس وراء كلمة سواء هي الصالح العام للوطن برمته دون اقصاء او تهميش او تشفي عبر الحوار والصلح وجبر الضرر وفق آليات متعارف عليها عالميا وموريتانيا ليست بإستثناء.
العقلية السائدة
في مضمار حديثنا عن مشروع مجتمع,هنا لا ينبغي علي القاريء الكريم أن يخلط بين الخطة الوطنية للتنمية الشاملة التي سأصفها بشيء من التفصيل في مقالات لاحقة وبين التقدم. فتلك الخطة عبارة عن خطة استعجالية لإنشاء بنية تحتية لائقة في موريتانيا حتى ينعم المواطن الموريتاني بمكتسبات وحق العيش الكريم في القرن الواحد والعشرين,أما التقدم فهو موضوع آخر يحتاج إلي تغيير عقلية الإنسان الموريتاني المتخلفة وبالتالي تغييرات سلوكيات ومعوقات تشكل كوابح وعوائق جدية في وجه أي تقدم منشود لعل ابرز هذه المعوقات:
1. عقلية الفساد المستشرية بين معظم شرائح المجتمع الموريتاني.
2. العقلية القبلية والعشائرية والمناطقية.
3. الاستخفاف بقيمة العمل حيث لازالت شرائح عديدة من المجتمع الموريتاني وتحديدا البيظان تستنكف وتترفع عن الأعمال المهنية كالنجارة والسباكة والحدادة والدهان وأعمال الورش والميكانيكا وتنظيف الشوارع تبليط الطرق وما إليها وتعتبرها مهنًا وضيعة غير لائقة وتحصر مفهوم العمل اللائق في العمل المكتبي والوظيفي والتجارة.
4. عقلية الاسترزاق السياسي.
5. الصراع السيزيفي المفتعل بين العلمانيين والإسلاميين في موريتانيا.
6. شروخ وتصدعات الوحدة الوطنية.
7. غياب روح الوطنية واعتبار الوطن كعكعة يجب اقتسامها.
8. اختزال الوطن في القبيلة أو الجهة أو المنطقة أو المدينة.
9. الهوس المرضي بتعاطي السياسة.
10. غياب العقلية العلمية الاستشرافية واستشراء التفكير الغيبي الميتافيزيقي.
11. الاستخفاف بمكتسبات العصر من تراكم معرفي.
12. القناعة والرضي بواقع الحال.
13. عدم الإلمام بالحقوق الفطرية والقانونية الطبيعية والمكتسبة للمواطن في ظل الدولة المدنية.
14. عدم إدراك المأزق الوجودي لواقع الدولة الموريتانية وبالتالي عدم إدراك وتقدير حجم المخاطر والتحديات التي تواجهها موريتانيا.
15. غياب الدولة شبه الكلي عن ساحة التأثير الفعال.
16. عدم وضوح الرؤية لدي معظم طيف الانتليجسيا الوطنية.
17. الحنين الجارف الي الماضي حد الهوس.
18. التطرف الديني.
19. غياب ثقافة التحاور وعدم تقبل الاختلاف والتغاير حيث تستشري ثقافة الإقصاء والتهميش ويقيينية الطرح والادعاء بامتلاك ناصية الحقيقة كاملة.
20. ظاهرة العبودية التي لازال قسم من المجتمع الموريتاني يرزح تحتها.
هذه المعوقات وغيرها الكثير لا شك أنها ستقف حجرة عثرة وستشكل تحديات جدية أمام أي مسعي حقيقي للنهوض بموريتانيا, هذا إلا إذا قامت النخبة الثقافية بدور ريادي واستباقي باستحداث ثورة مفاهيمية تطال كافة البني والأنساق المعرفية الكابحة والتي تحرم الموريتاني من التماهي مع عصره.
توجد في العالم العديد من الدول التي كانت تعيش أوضاعا متخلفة وتعاني من مشاكل جدية وخطيرة أكثر مما تعانيه موريتانيا حاليا, هذه الدول غدت الآن من أهم الفواعل الاقتصادية والعلمية في العالم مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية وأندنوسيا والصين وسنغافورة.
........ يتبع غدا إن شاء الله ............