مشروع مجتمع (ح2) التخطيط الاستراتيجي / د.الحسين الشيخ العلوي

توطئة
إن "مشروع مجتمع" الذي نحن بصدده عبارة عن مشروع مجتمعي بأسلوب التخطيط الإستراتيجي المتبع في بناء الدول والكيانات الاجتماعية للتأطير والتأصيل لمفاهيم علمية حديثة تتجاوز انساق وبني الحداثة المعرفية بغية انتشال المجتمع والدولة الموريتانية من براثن التخلف والجهل والمرض إلي السلم الاجتماعي والي آفاق المدنية الرحبة

حيث العلم وآلياته هما المقود والقاطرة لأي مسعي تنموي يراد به تجاوز الواقع الراكد ومواكبة روح العصر شكلا ومضمونا كأبرز التحديات الوجودية في زمن العولمة المتسارع الأنفاس والمتلاحق الوتائر.حيث أدرك المخططون الاستراتجيون أن التراكم المعرفي الهائل في وقتنا الراهن وصل حد الفيضان حيث غدت المفردة العلمية تتجدد كل سبع ثواني! في حين كان يلزم لحدوث ذلك عقود من الزمن(عشرات السنين) خلال القرون الخمسة الماضية والمسماة بالعصر الحديث ووصل دفق المعلومات كمًا يصعب معه الحصر أو الإحاطة حيث ولي وللأبد عصر المثقف الموسوعي لاستحالة مثل هذا النعت أيامنا هذه! بسبب الطفرة المعلوماتية التي جاءت كنتاج للثورة الهائلة في عالم الاتصالات والتي جعلت العالم بحق قرية كونية وغيرت مفهومي الزمان والمكان التقليديين حيث قرا في وطرنا كمفهومين ثابتين ذي أبعاد ثلاث في مخيالنا الجماعي ليحل محله زمكاني افتراضي سايبيري (ذي ابعاد أربعة شديدة التداخل) يوغل في بسط نظمه وأنساقه المعرفية دون هوادة.هذا المعطي الاستثنائي غير المسبوق في تاريخ الاناسة قد أحدث تبدلا في ماهية الابيستيمولوجيا ذاتها الشيء الذي جعل مفاهيم وأنساق وبني الحداثة وما بعدها تنداح وتتصرم وتتواري بتؤدة الراحل الوجل من مسبغة أو المنهك جراء مقارعة سيزيفية دون تناص مع الواقع الذي فقد مع مجتمع المعرفة دثار التدرج والرتابة الابيقورية ليؤسس ليوتوبيا جديدة قوامها المؤثرات الميدياتيكية التي شظت حميمية التداول المباشر وهزت يقين الوعي التراكمي للموجات الثلاث التي عرفتها البشرية علي حد قول "آلن توفلر" لتطال تخوم الميتافيزيقا التي توشك علي الأفول كبريق سرمدي!!
مجتمع المعرفة هذا الذي عرف في عالمنا الثالث بالعولمة التي غدت من أكثر المصطلحات الفكرية إثارة للجدل والاختلاف تبدو موحشة دون استئناس كأي وافد جديد ونظر إليها في موريتانيا بهستيريا شديدة التبسيط تفصح عن بنية مهترئة ومتداعية علي كافة الصعد دون استثناء ملحوظ!, الوضع المزري لبلدنا يخض الوجدان ويعري الشيفونية المخاتلة التي طالما تواري خلفها النظام الرسمي كما أبان عن أوهام النخبة السياسية الموريتانية التي توارت خلف الشعارات والمثاليات المجنحة في الأوهام كمبرر لمعارضتها كما أنها أبانت عن حجم التآكل المذهل الذي اعتري القاعدة الشعبية العامة,الشيء الذي فسح المجال ومهد للظواهر الارتكاسية وقدم بجلاء ووضوح لا تجدي حياله المكابرة حقيقة ساطعة مفادها أن في هكذا بيئة تفيض بالإحباط وانسداد الأفق فإن انطولوجيا الإرهاب والارتكاس الماضيوي ودوغما التعاطي والفجور في الخصومة تغدو محصلة طبيعية ومخرجات حتمية لعبثية الواقع الموريتاني اللامعقول! الذي ساهمت في تجذيره النخب السياسية التي أدارت ظهرها للواقع ولم تدرك تداخل آلياته في التعاطي مع الشأن العام.
قلائل هم المفكرون العرب الذين أدركوا أن مكمن الداء العربي - الذي لا محالة سيفضي إلي واقع متردي كالواقع الذي نعيشه في موريتانيا – كامن في العقلية العربية التي ترفض قيم المعاصرة وتجد صعوبة في المواءمة مع روح العصر ذي النزعة العلمية والتي تتسم بالعقلانية,العقلية التي تعيش أسيرة لمنظومة وأنساق فكرية قروسطية نظرا لغياب روح العلم التي تفكك الواقع المعاش وتعيد صياغته وفق أنساق ومتطلبات واقع الناس-.من هنا لا نري حلا لهكذا واقع في بلادنا بغير مشروع مجتمع متكامل الابعاد من مرحلتين اولي مستعجلة سقفها الزمني سنتان الي خمس والثانية دائمة حسب متطلبات الواقع المتجددة.
******************************
كانت خطة مارشال التي عملت علي إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية التطبيق العملي لأسلوب التخطيط الاستراتيجي حيث وضع زهاء الفين من الخبراء في مجالات الانتربولوجيا والاقتصاد وعلم الاجتماع والعمران والتصنيع والإدارة والبيئة وإدارة الازمات مخططات استشرافية لإعادة إعمار القارة العجوز التي خرجت منهكة وشبه مدمرة كلية بعد أفظع حرب عرفتها البشرية راح ضحيتها اكثر من خمسين مليون قتيل وعشرات الملايين من الجرحي والمشوهين نفسيا ولازالت حتي اليوم تعاني القارة العجوز من تبعات تلك الحرب التي غيرت التركيبة الديموغرافية لمعظم دول اوروبا حتي اليوم!
نجاعة مخرجات خطة مارشال حد الابهار في بحر نصف عقد من الزمن كانت إيذانا بالتعويل الكلي علي العلم ومخرجاته في التخطيط الذي قسمه العلماء الي تخطيط عام يعني بالتخطيط المرحلي والمتقطع لمتطلبات وحدات إقتصادية معزولة ككيانات معيارية أحادية التصنيف وتخطيط استراتيجي يعامل المجتمع برمته كوحدة اقتصادية كلية ذات كيانات معيارية أحادية التصنيف علي المستوي القاعدي.
ثم توالت التجارب الناجحة التي ارتكزت علي التخطيط الاستراتيجي في بقاع شتي من العالم لعل اكثرها حضورا وفعالية هي تجارب النمور الاسيوية التي تميزت عن بقية التجارب الأخرى في تركيزها علي مشروع المجتمع والتعويل علي الموارد البشرية حيث توجهت الاستثمارات الوطنية في تلك الدول الي العلم,لذا كانت النتائج باهرة الي الحد الذي يكاد يجمع خبراء الاقتصاد وعلوم الاناسة علي أن بوصلة القياد العالمي بدأت تتجه شرقا منذ صيف 2007 ويُتَوقع أنه بحلول العام 2030 ستكون الولايات المتحدة العضو الوحيد في نادي العشرة الكبار من خارج آسيا! 
أركان مشروع مجتمع
1. الركن السياسي من مشروع المجتمع: ويشمل هذا الجانب علي:
• شكل النظام السياسي:عبر توصيف اشكال النظم السياسية الديمقراطية الحالية ليتحدد إختيار الشعب الموريتاني لشكل النظام السياسي عن بينة وليكون موائما للخصوصية والواقع الاجتماعي الموريتاني.
• التعريف بنظام فصل السلطات وأهميته.
• تعريف المواطن بحقوقه السياسية التي لا يجوز له التنازل عنها وواجباتها تجاه وطنه.
• اهمية السلطة الرابعة:الاعلام وأهمية حرية التعبير كمكتسب حضاري لا غني عنه لصيانة الحريات العامة ومراقبة السلطات المختلفة.
• التعريف بأهمية وماهية الدستور في تنظيم الحياة السياسية وتحديد الصلاحيات وإيجاد ثقافة دستورية للتمييز وإدراك الفروق بين القانون العام والقانون الاساسي.
• عبر الثقافة الدستورية يتم تحديد دور المؤسسة الامنية والعسكرية في النظم الديمقراطية.
• دولة المواطنة والمساواة.
• مفاهيم السيادة والواجب الوطني وخدمة العلم والعمل التطوعي في النظم الديمقراطية.
• المجالس البلدية وأهميتها في التخطيط العمراني وتقديم خدمات حديثة بيسر وسهولة للمواطن أينما كان.
• التوصيف القانوني لحقوق الانسان.
• آليات تنفيذ مفهوم الشفافية ومحاربة الفساد.
2. الركن الاقتصادي من مشروع المجتمع: ويشمل هذا الجانب علي:
• وضع المخططات العامة وفق آليات التخطيط الاستراتيجي من قبل الخبراء في كافة المجالات الاقتصادية.
• آلية الاستفادة من الثروات الوطنية لإستحداث بنية تحتية حديثة تؤسس لتنمية مستدامة ومتجددة.
• تنويع مصادر الدخل عبر استحداث مجالات إقتصادية تشكل كوامن منعة لموريتانيا. كالطاقات البديلة والمتجددة والسياحة والتجارة البينية والوسيطة والخدمات والزراعة.
• إعداد المخططات وآلية تنفيذها لتحويل موريتانيا الي مارد إقتصادي في غرب افريقيا ذو إقتصاد منفتح يعتمد أساسا علي إقتصاد المعرفة.
• مدن المعرفة وإقتصاديات المعرفة.
• نظم الشفافية المالية والمراقبة وتقييم الأداء.
• قيم العمل المنتج وتجذيرها في المجتمع.
• تخطيط المدن والعمران وفق أساليب التخطيط الحديثة.
• شبكة مواصلات واتصالات حديثة تشمل النقل الحضري كالنقل العام داخل المدينة او النقل بين المدن(القطارات ومترو الانفاق والحافلات)والرحلات البحيرية بين المدن الساحلية(نواذيبو – نواكشوط - روصو) وبينها وبين مختلف الموانئ العالمية ذات المبادلات التجارية مع موريتانيا والرحلات الجوية الداخلية والخارجية.
• توطيد اركان السياحة الداخلية ونشر ثقافتها.
• تأطير وتقنين ورسملة قوانين العمل والشغل والايفاد والاستجلاب وفق الاضبارات القانونية والمواثيق والعهود الدولية بالخصوص.
• إحياء وترسيخ ثقافة واهمية العمل النقابي والجمعوي.
• ربط ذو الاحتياجات الخاصة بالدورة الاقتصادية العامة.
• تحرير الاقتصاد من سطوة الدولة وتأهيل وتحديث القطاع العام ليلعب دورا رياديا في التحديث.
• الاستثمار في مجال التعليم والبحث العلمي.
• المجتمع الرقمي.
• قطاع المياه والكهرباء.
• معالجة النفايات والخدمات الرديفة.
• النظام المالي.
3. الركن الثقافي من مشروع المجتمع: ويشمل هذا الجانب علي:
• طرق وآليات ترسيخ روح التسامح والمواطنة والسلم  والأمن الاجتماعي.
• طريقة وسبل نشر ثقافة الحوار والتعايش السلمي وتقبل الرأي المختلف وإحترام التعددية والتغاير والتشاكل.
• الآليات المتبعة لنشر ثقافة وروح القانون وقيم المواطنة في الدولة المدنية.
• طريقة ترسيخ هذه القيم من خلال نتاج ابداعي كثيف في مجالات الرواية والمسرح والأدب والشعر والسينما والإعلام والدوريات السيارة والمراكز البحثية.
• نشر الثقافة الجمالية من خلال معارض الفنون التشكيلية والاهتمام بالغطاء والمسطحات الخضراء.
• تربية الناشئة من البيت والروضة والمدرسة الي محيط العمل ومؤسسات المجتمع بأهمية النظافة والنظام والترتيب.
• ربط الناشئة والأطفال بالأحياء والمدن بالنشاط الجمعوي والنقابي.
• نشر الوعي البيئي والثقافة الجمالية بشكل عام.
• نشر ثقافة حقوق الانسان عبر الوسائل المتاحة.
4. الركن العلمي من مشروع المجتمع: ويشمل هذا الجانب علي:
• وضع المخططات العامة وآلية تنفيذها لتحقيق نقلة نوعية في المجال التعليمي من خلال تغيير المناهج وآلية التدريس لتواكب روح العصر.
• توصيف النظم التعليمية للدول العشرة الرائدة عالميا بغية الاستفادة منها.
• تخصيص ما لا يقل عن 5% من الموازنة العامة للبحث العلمي.
• إنشاء مراكز بحثية ومراكز دراسات متخصصة في كافة المجالات وتشجيع القطاع الخاص علي ولوج هذا القطاع والمساهمة فيه.
• اعادة تأهيل المدارس والجامعات والمعاهد لتكون مواكبة لروح العصر.
• ربط العملية التعليمية بالدورة الاقتصادية من خلال المخرجات التي يجب ان تكون ملبية لمتطلبات السوق المحلي.
• الشروع في انشاء مدن المعرفة لتحويل الاقتصاد الموريتاني تدريجيا الي اقتصاد معرفي.
• الاهتمام بالمواهب والنوابغ والعمل علي رعايتهم منذ الصغر لأنهم الرأسمال الذي لا يقدر بثمن لاستحداث النقلة النوعية المستهدفة.
5. الركن الاجتماعي من مشروع المجتمع: ويشمل هذا الجانب علي:
• التنشئة في الفترات المبكرة (البيت ورياض الاطفال): لإدراكنا لأهمية هذه المرحلة التي ستؤسس لبقية مراحل الطفل في المجتمع.
• النسيج الاجتماعي الموريتاني الذي يتكون من بيظان وإحراطين وكور وللجميع حقوق متساوية والواجبات ذاتها,عليه يجب نشر ثقافة التعايش السلمي بين مكونات النسيج الاجتماعي الموريتاني وذلك لإعلاء قيم المواطنة الواحدة واحترام تعدد الهويات واختلافها, ففي ذلك اثراء وإغناء للتراث القيمي والاجتماعي الموريتاني.
• العناية والاهتمام بالتراث الشفاهي والمكتوب لكافة مكونات المجتمع الموريتاني دون شوفينية او تهميش او اقصاء.
• العمل علي نشر ثقافة التسامح والثقافة الانسانية لمحاربة فكر وثقافة الاقصاء والتعصب.
• طرق وآليات عمل قطاع الاعلام وفق طرق احترافية لتحقيق مستهدفات الدولة الموريتانية.
• أهمية الثقافة ودورها الفعال في ترسيخ قيم الدولة المدنية والتعايش السلمي وتقبل الاختلاف.
• قطاع السمعيات والبصريات وتوظيف الثورة المفاهيمية للعالم الرقمي.
• رياض الاطفال.
• قطاع الشباب.
• الرياضة.
• دور السينما.
• النظافة والمظهر.
• الثقافة البيئية :(كأولوية : المسطحات الخضراء والمنتزهات العامة وحماية البيئة ...الخ)
الشق الاجرائي
بهذا نكون قد استوفينا جانب التأصيل المعرفي وكذا الشق النظري لمشروع المجتمع وبحول الله تعالي سنشرع بدءً من الحلقة الثالثة في تناول الشق الاجرائي الذي سيعني أساسا بالإجابة عن سؤال كيف يمكن تنفيذ مشروع المجتمع هذا في موريتانيا؟
أتوقع أن الشق الإجرائي سيأخذ من خمسة الي سبعة حلقات متتالية عند نهايتها نكون قد قدمنا للقيمين وللنخبة الثقافية والسياسية ولشعبنا الطيب الصابر عصارة تجربة بحثية باذخة الثراء أخذت مني ربع قرن من الاطلاع والبحث وغربة عمرها 35 سنة عن ديار الوطن.
والله من وراء القصد وهو عز وجل ولي التوفيق

........ يتبع إن شاء الله ............
 

4. يونيو 2016 - 1:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا