ما أتفق الموريتانيون على شيء أكثر من اتفاقهم على مشروعية نضال شريحة لحراطين و إقرارهم بما تعرضت له من ظلم تاريخي ترك أثرا بالغا و جرحا غائرا في وجدان الشريحة عكس الوجه السيئ للممارسات الاستعبادية التي شهدتها منظومتنا الاجتماعية و ما خلفته تلك الممارسات من ضحايا قد استبد بأصحابها
الفقر و الجهل و التهميش و الإقصاء و الغبن في فترة كانت العبودية منطقا سائدا و حقيقة لا تميز مجتمعا عن مجتمع كونها ظاهرة إنسانية بغيضة الإسلام حاصرها منذ أربعة عشر قرنا و كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أعلى مثال على هدم مفاهيم الاستعباد في النظام القبلي القرشي لأن جله صحابته الأجلاء كانوا عبيدا مستضعفين في محيط قائم على ثنائية السيد و العبد ،هذه الوضعية المحاربة في الإسلام بتحرير رقبة مسلمة في الكفارات و غيرها من المواقف و المعاملات قولا و فعلا و تبي و مصاحبة و تكليف .. هذه المشاهد لا تجعل من مبرر لمسلم أن يسترق أخاه المسلم ..هذه القيم هي التي رفضت احتقاره و لم تقر باستعباده و إذلاله إلى الأبد ، و ما وقع هو الزيغ عن المحجة البيضاء و ركوب موجة الاسترقاق التي كانت رائجة بين شعوب المعمورة بل هي مرحلة تاريخية عاشها الإنسان بألوانه و لغاته و ليس مجتمعنا البدوي الرحل القبلي التراتبي بمنأى عن دورة عجلة التاريخ فقد عاش للأسف تجربة العبودية القاسية مارسها في كل اتجاهاتها و تناقضاتها جسد روحها و بعدها اللاإنساني أحيانا غير أنها تبقى تجربة مرة تركت اختلالا في التوازن الاجتماعي وأعطت صورة عن ماض حفر في الذاكرة الجمعية مشاهد مؤلمة و محزنة هي مبرر كل حراك أو مسيرة تدعو لمحاربة الرق و القضاء على مخلفاته و إعادة الاعتبار لمن عاشوا تجربته و اكتووا بنيرانها .
المسلمة التي ينبغي أن ننطلق منها جميعا مهما تعددت اتجاهاتنا و اختلفت نوايانا العمل على تصحح المفاهيم ، و احترام الثوابت ،فالنضال مشروع و هو مشروع بالفعل ضد الظلم و الاستعباد و الأحكام الجائرة و المفاهيم المغلوطة كما مشروع ضد مشاريع الانتقام و منطق التفتيت و التمزيق.
لم أكن أتصور أن هوية لحراطين في مجتمع البيظان بالخصوص إشكالا يتطلب نقاشا أو مجالا يدفع البعض للمطالبة بوجود قومية لهذا المكون من مجتمع البيظان ، هذه دعوة خرجت من السجن مع صاحبها الذي احترمه إبراهيم ولد بلال نائب رئيس حركة إيرا في قناة المرابطون برنامج المشهد(لقاء سابق ) ، كنت أتابع حديثه و ما أثار استغرابي دعوته للاعتراف بقومية خامسة للحراطين إلى جانب البيظان و بولار و سوننكى و الولف وهو حسب علمي أستاذ للفلسفة يعرف جيدا ماذا تعنيه القومية ؟ ولا أظن أنه قد نسي دروسه . أنا أستاذي الفاضل أعرف ماذا يعني الرق و ماذا يعني الاحتقار فقد تعرضت شريحتي لمعلمين للسخرية و التجاوز حتى من قبل المستعبدين ، غير أن ذلك لا يدفعني إلى البحث عن مجهول لا تتوفر له مقومات وجود ، فإذا ما عرفنا القومية فهي انتماء مشترك تجسده اللغة و التاريخ و الثقافة بمعناها الواسع يتعالى على العرق و العصبية ، و إن عدنا إلى كتابات المستكشفين الفرنسيين في القرن التاسع عشر ـ قرن ازدهار تجارة العبيد ـ نجدهم جميعا نظروا إلى مجتمع البيظان نظرة إجمالية و ذكروا مكوناته و من بينها شريحة لحراطين ، و إذا كانت لحراطين تطلق على الأرقاء السابقين فإن العبودية مورست في المجتمعات الزنجية (بولار ـ سوننكى ـ وولف) بشكل بشع و أخذت طابعا عنصرا لا تتكلم عنه الحركات المناهضة للعبودية في موريتانيا اليوم بل تتجاهله و لا تصب زيتها و نارها سوى على ما هو موجود في مجتمع البيظان . الهوية الخامسة التي تحدث عنها الأستاذ هل تسقط من عضويتها احراطيين بولار على سبيل المثال ؟ إذا كان الجواب لا ، كيف نتصور قومية جديدة مع أناس لا تجمعهم لغة واجدة و تتباين عاداتهم و تقاليدهم و موروثهم الشعبي و لا شيء يربط بينهم سوى لون البشرة و الرابطة الدينية التي تتعالى على القومية . إن طرح هوية للحراطين أو لمعلمين بهذا الشكل و خارج البيظان طرح غير موفق يصطدم بالواقع و التاريخ و المنطق فلم يكن الزوايا و لا لعرب أكثر مساهمة في صنع تاريخ مجتمعنا من لحراطين أو لمعلمين و لا أكثر انجازا حتى نتنازل عن حمل الاسم لفئات نتقاسم معها نفس الموروث بل إننا جميعا صنعاه بالألم و بكد اليد و بالمعاناة لذا لن نتخلى عن هوية نحن عناوين بارزة فيها كتبنا لوحاتها و رسمنا ملامح حضارتها بالمرقاية و النجارة إلى جانب القلم و السيف .
إن حديثا من هذا النوع لا يخدم قضية بل يسيء إليها هو يعكس أزمة الخطاب و عدم وضوح الرؤية و ضبابية الأهداف ، فمشكلة لحراطين لا تعالج بمعاول هدم الهوية و لا بالتشكيك في الانتماء ولا ببناء جدار فصل بين مكونات المجتمع و إنما العلاج يتم في نطاق دولة القانون وجعل العدالة الاجتماعية واقعا معاشا لا مجرد شعارات ترفع لقمع المعارضين أو لمناهضة الحاكمين أو وسيلة الاستعطاف الأجنبي و خلق حالة من الفوضى تهدد الوحدة و السلم الأهلي .
لحراطين بيظان بحكم اللغة و التاريخ و الثقافة و الموروث الشعبي قاسى أجدادهم مظالم العبودية و حمل الأبناء ضريبة الاستعباد فكان الفقر و الجهل و البؤس و لم تكن ظاهرة أدباي إلا هروبا من قسوة الممارسات الاستعبادية و التمرد على سيد لم يكن شرعيا أو دينيا في أقل الأحوال في ممارساته الاستعبادية . جزء مظلم من تاريخنا حدث في زمن اللادولة و مرفوض بالقطع في ظل دولة القانون و المجتمع الحداثي و إذا ما وجد تصرف من هذا القبيل كان ذلك دليلا على تخلف المجتمع و ضعف جهة الردع و عدم تأهل المجتمع إلى مرحلة المصالحة مع ذاته , و هو الأمر الذي لا يعالج بتجزئة المجزأ أو بتحويل فئة هي مكون أساسي من مجتمع إلى قومية قائمة على مخلفات العبودية و الاسترقاق .